شهدت الأسابيع القليلة الماضية استمراراً لذلك المسلسل السخيف المتمثل في الإساءة إلى رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم. يذكر الجميع كيف بدأ هذا المسلسل برسوم كاريكاتيرية مسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام نشرتها إحدى الصحف الدانماركية، ثم صحوْنا مؤخراً على ذلك الفيلم المسيء الذي أنتج في الولايات المتحدة، وإن لم يكن لحكومتها ضلع في ذلك، وأخيراً جاءت الرسوم الفرنسية لتمثل استمراراً لهذه الأعمال الكريهة. وثمة ملاحظات واجبة على مصادر الإساءة، أولاها أنها نتاج سيئ للعلمانية وحرية الرأي لا تملك الحكومات المعنية أي سلطة في هذا الخصوص وإلا أصبحت معتدية على إحدى مسلمات المجتمع وهي حرية الاعتقاد وحرية الرأي. وثانيتها الرغبة في إثارة نوازع الكراهية للدين الإسلامي، وقد تصل في ذلك إلى تصوير كافة المسلمين باعتبارهم أتباع دين "متخلف"، أو كرد فعل مَرَضي على أوضاع تمس المسيحيين في بعض البلدان الإسلامية. وثالثتها الرغبة في تحقيق الشهرة طالما أن هذه الأعمال تستقطب اهتماماً شعبياً وإعلامياً واسعاً، ولم تكن مصادفة أن الصحيفة الفرنسية التي كانت آخر الوافدين إلى معسكر المسيئين صحيفة مغمورة محدودة الانتشار قليلة التوزيع. ولكن الأهم هو ردود الأفعال الإسلامية، والملاحظة الأولى في هذا الصدد أن الشق الرسمي فيها هو الأضعف. صحيح أن الحكومات تتخذ مواقف، ولكنها غير فاعلة تقتصر على إبداء الرأي دون أن تهدد أو تضغط، ويحدث هذا بطبيعة الحال لأن الحكومات تدرك القيود القانونية والدبلوماسية الواردة على حركتها، وكذلك تعرف أكثر من غيرها أن الحكومات في "بلاد الإساءة" مقيدة كذلك بعدم وجود أي تشريع أو حتى مناخ عام يمكنان من وقف هذه الإساءات. أما الملاحظة الثانية فهي "نمطية" ردود الأفعال الشعبية، فهناك أولاً من يثير جماهير المسلمين في هذا البلد أو ذاك، كي تقوم بعمل عنيف ضد الإساءة، ويدخل في باب زيادة الإثارة تكرار نشر الرسوم المسيئة أو بث الفيلم فضائياً، علماً بأن هذه الأفعال في حد ذاتها تمثل امتداداً للإساءة، وهناك مثل مصري شعبي يقول ما معناه "من شتمك هو من بَلَّغك"، وبعد أن تصل هذه الإثارة ذروتها تبدأ أعمال العنف غير المنضبطة بعد أن تتحول التظاهرات في اتجاه العنف. وقد تؤدي هذه الأعمال إلى إزهاق أرواح وتدمير ممتلكات، وإيقاع حكومات دول إسلامية في حرج بالغ نتيجة العدوان على مقار السفارات بما يخالف التزامات الدول المضيفة لهذه السفارات بموجب القانون الدولي والدبلوماسي، ولعل أشد الأضرار في الآونة الأخيرة ما يتعلق بمصرع السفير الأميركي وآخرين في بنغازي على يد متشددين دينياً. ثم تأخذ الأمور في الهدوء تدريجياً دون أن يتمكن أصحاب العنف من رد الإساءة، إذ تبقى الرسوم ويبقى الفيلم، ويبقى كل من هو مسؤول عنها بمنأى عن العقاب لأن القانون في بلده لا يجرم فعلته، بل إن أصحاب العنف لا يجنون سوى ترسيخ الصورة السلبية عنهم لدى خصومهم، وإظهار المسلمين بمظهر غير حضاري بصفة عامة. فهل يعني هذا أن نسكت على الإساءة لرسولنا الكريم؟ بالطبع لا، ولكن ثمة وسائل متحضرة تتسق وصحيح ديننا يمكن أن نواجه بها الإساءة، وقد يقال إن هذه الوسائل لا تسمن ولا تغني من جوع، وهذا غير صحيح في رأيي. لكن السؤال هنا: ما الذي نجحت الوسائل غير المتحضرة في تحقيقه غير النتائج السلبية التي سبقت الإشارة إليها؟ هناك المظاهرات السلمية المنظمة التي تتم الدعوة لها على نطاق واسع، ويتم الحشد لها بجدية بحيث تشارك فيها مئات الألوف بدلاً من هذه المئات القليلة التي تعطي العالم الخارجي انطباعاً بأن الإساءة لا تثير سوى القلة، ومن اللجوء إلى العنف غير المنضبط الذي يسمح بانضمام محترفي أعمال العنف، ولا مانع من أعمال رمزية يحشد لها الإعلام المحلي والدولي بحيث تشد انتباه العالم كله مثل توقف جميع وسائل النقل البرية عن الحركة لمدة دقيقة واحدة، أو إطلاقها صفاراتها في توقيت واحد تعبيراً عن الاحتجاج على ما وقع ورفضه طيلة هذه الدقيقة، أو تعليق أعلام موحدة في شرفات كافة المنازل تحمل شعارات منددة بالإساءة، ولا مانع من بعض الأعمال الدبلوماسية الرمزية مثل استدعاء جماعي لسفراء الدول الإسلامية إلى الدولة التي وقعت فيها الإساءة بغرض معلن هو التشاور حول سبل مواجهة ما وقع، أو استدعاء سفراء هذه الدولة في جميع العواصم الإسلامية لإبلاغهم الاحتجاج الشديد، وأن الدول الإسلامية لن ترضى بأقل من جهد رسمي جاد نحو توفير إطار قانوني لعدم تكرار هذه الإساءات. وهناك الجهود التي تبذل لدى المنظمة الدولية -وهي حاصلة بالفعل- من أجل استصدار قرار دولي يمنع ازدراء الأديان ورموزها، ويطالب الدول المختلفة بأن تسعى باتجاه استصدار قانون يسمح بتصدي هذه الدول لمثل هذه الأعمال ومواجهتها. لن ينضب معين المسلمين من أفكار أخرى تستند إليها تحركات واعية تشير إلى شدة الغضب من الإساءة للرسول الكريم وضرورة السعي بالوسائل القانونية لعدم تكرارها، ودعوة الدول المعنية إلى الاعتذار للإسلام والمسلمين عما وقع بحقهم، وتقدم بدائل عملية للمواجهة، وفي الوقت نفسه تظهر المسلمين في صورة حضارية تليق بهم وبدينهم. غير أنه من الأهمية بمكان أن نتأمل في أنفسنا وأعماقها جيداً. يجب أن نعترف أولاً بأننا -أو جماهيرنا الغاضبة على الأقل- لا نفهم المجتمعات التي تصدر هذه الإساءة المتكررة عن أفراد أو جماعات فيها، فهذه المجتمعات علمانية، وحرية التعبير عن الرأي فيها مطلقة، ولا سلطان للحكومات بأي شكل من الأشكال على ما يأتيه الأفراد أو تقوم به جماعات من ازدراء للأديان، وقد فعل هؤلاء بالسيد المسيح ما هو أشد بكثير من الإساءة التي حدثت بحق رسولنا الكريم، ولذلك يجب أن ندرك جيداً أن الأعمال الموجهة للحكومات ورموزها هي في الأصل احتجاج ضل طريقه إلى الفاعلين الأصليين، وقد ينبه الحكومات إلى خطورة ما يجري على أرضها من أعمال تسيء إلى علاقاتها الدولية، ولذلك يجب أن ينصرف الجهد السياسي إلى داخل هذه المجتمعات بالدخول في حوارات والقيام بأعمال سياسية تحاصر منابع الفتنة. وكذلك يجب أن ندرك بصفة عامة أن وضع البلدان الإسلامية لا يمكنها من أن تكون ندّاً يُحسب حسابه في التفاعلات الدولية، وقد أُذكِّر القارئ الكريم بأنه في أعقاب ردود الفعل العنيفة للرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للرسول الكريم انبثقت وعود المقاطعة التجارية للدانمارك لكي نكتشف بعد ذلك أننا نحن المضارون من هذه المقاطعة، فالدانمارك تصدر إلينا جزءاً يعتد به من غذائنا الذي كنا نوفره بأيدينا قبل ذلك، وهل نستطيع الآن كدول إسلامية مقاطعة الولايات المتحدة وبعض هذه الدول على الأقل يعتمد عليها اعتماداً كبيراً؟ أو مقاطعة فرنسا ومن ورائها الاتحاد الأوروبي؟ لا أقول هذا من باب إشاعة الإحباط واليأس، ولكنني أقصد التنبيه إلى أن فرض مكانتنا في العالم، وجعل الدول المعنية تتحسب ألف مرة لردود أفعالنا تجاه من يسيء إلينا لن يتم إلا إذا صنعنا تقدماً حقيقياً يجعل منا أمة مرهوبة الجانب، ويجعل الآخرين يفكرون ألف مرة قبل أن يشرعوا في الإساءة إلينا.