يدور في مصر جدلٌ كبير هذه الأيام حول تعدد الفتاوى التي تصدر عن شيوخ دين فيما يتعلق بالشأن العام. ففي الوقت الذي صدرت فتوى بإهدار دم المتظاهرين الذين خرجوا يوم 24 أغسطس الماضي، وفتوى إهدار دم الدكتور محمد البرادعي أو سجنه، بسبب دعوته إلى التظاهر، طالب شيوخ آخرون بعدم اللجوء إلى التظاهرات معتبرين أن إعانة المتظاهرين هي إعانة على الإثم والعدوان. وعلى الجانب الآخر يرى شيوخ معتدلون أن إطلاق الفتاوى بهذه الصورة يشوّه الإسلام، وخصوصاً ما تعلق بتكفير الإنسان أو إهدار دمه بسبب إعلانه رأياً سياسياً في قضية عامة قد يختلف عما يدور في رأس صاحب الفتوى! وطالب هؤلاء بضرورة معاقبة أصحاب الفتاوى التي تنال من فكر وسمعة الإنسان. ونحن نعتقد أنه مع التحولات الجديدة في العالم العربي -أي بعد الثورات العربية- صار المناخ العربي والإسلامي مُحتقناً جداً! وأن انتصار الثورات العربية وسقوط الطغاة قد أوجد حالة انفراج واسعة للتعبير عن مجمل القضايا، الأمر الذي وصل ببعض المفتين إلى الحساسية المفرطة تجاه أية ظاهرة أو قول أو شخصية في أية وسيلة إعلامية. وأصبح هؤلاء مُستنفرين لأية كلمة أو لفظة قد تخرج من هذه الوسائل كي يعلقوا عليها ويُصدروا أحكاماً -في كثير من الأحيان- قاسية ولا تتلاءم مع الموقف. كما يحلو لهذا البعض الخروج بفتاوى غريبة وغير صالحة لهذا العصر، كما هو الحال في قضية فتوى (إرضاع الكبير) التي شغلت الرأي العام العربي فترة ليست بالقصيرة وأصبحت محل تندّر في وسائل التواصل الاجتماعي. كما سمح المناخ الديمقراطي -الذي وصل إلى حد الانفلات- بملاحقة بعض المفتين للفنانات واتهامهن بالفجور، ما زاد من قضايا القذف المرفوعة في المحاكم ضد هؤلاء المفتين. لقد تغيّر العصر، وانفلت اللسان من عقاله بعد غياب الضغوط السابقة، وصار لكل إنسان عالمه الخاص من "تويتر" و"فيسبوك" و"آيفون" وفضائيات بدأت تتنافس في عرض المثير من تلك الفتاوى كسباً للإعلان، دونما اعتبار للمقاييس الأخلاقية التي تحكم النشر أو البث. كما أن المناخ العام في مصر قد فتح باب الإفتاء على مصراعيه، وتنوعت التوجهات حسب الاختلافات في الفكر والنية، وهذا يُضعف مثالية الإفتاء وسموّه، ويخلق عداوات بين الناس في البلد الواحد، بل ويشوّش أفكار المسلمين. الإفتاء بالذات يجب أن يكون عبر المؤسسات المعنية بهذا الأمر، وإلا أصبحت الدنيا "فوضى إفتاء"، بحيث يوظّف كلُ مفتٍ أفكاره وأيديولوجيته في الدين، وهذا شكلٌ من أشكال التعدّي على الدين وقدسيته، إن كان المفتي غير مؤهل لذلك. عشرات الفضائيات في السماء العربية تبث فتاوى وصوراً تحريضية ضد المذاهب الإسلامية وكلمات لا يجوز أن تُقال بحق الخلفاء والصحابة رضي الله عنهم، وسبابٌ يتجاوز نُبل الموقف الديني بقصد التحقير والتكفير. ولكأن هذه الأمة قد انتهت من حل كل مشكلاتها كي تغرق في مستنقع الفتاوى الخارجة عن روح الفتوى وضرورتها وأهميتها في المجتمع. لقد نقل المسلمون خلافاتهم الفقهية والمذهبية إلى السماء بعد أن كانت على المنابر، الأمر الذي يُشعرك بابتعاد هؤلاء المفتين عن سماحة ونبل الإسلام ووقاره، وتواضع رجل الدين وسعة صدره بالرأي الآخر. وأنا لا أعرف كيف يتجرأ رجل دين مسلم فيلعن أحد خلفاء المسلمين، ألا تقترب هذه المسألة من قضية الدنماركي صاحب الرسوم الكاريكاتورية المسيئة؟! بل لربما تتجاوزها لأنَّ لعنَ المسلم غير جائز فما بالكم بلعن إمام عادل وورع من خلفاء المسلمين؟!. إن عدم صفاء القلوب، والغلو في الاختلاف، وحقن الأيديولوجيات في الدين من أسباب هذا التعصب الفضائي والإفتائي! كما أن روح الجاهلية التي لا تقرّ بالآخر، وتتعصب للمذهب بشكل جنوني، تساهم في تلويث الفضاء بهذا الكم من الأقوال التي لا تفيد المشاهد قدر ما تثير اشمئزازه وتحوّله عن القناة. كما أن رجل الدين يجب أن يكون سمح الوجه طلق المحيا نظيف الكلمات وغير اتهامي، ويقدّم الإيجابيات على السلبيات، ويحاور فكر الآخر الذي يختلف معه، بكلمات راقية لا تخالف روح الإسلام ونقاوته وبلاغته. وفي ظل الفتاوى والفتاوى المضادة تضيع الحقيقة، ويتشوّش فكر الشباب، وتزداد المشاحنات والمماحكات، وتقوى لهجة التخاصم بين المسلمين. بل وتشلُّ الأفكار عن البحث في تطوير البلدان، والإنتاجية، والعدالة. ويصبح الفرد أسيرَ البحث عن تفسيرات تجعله منفرداً متوحداً مع نفسه، حتى لو أثر ذلك على عمله (الذي هو عبادة في المقام الأول) وكلفه الوقت والجهد في بحث لا يقدّم ولا يؤخر ودون الوصول إلى حتميات تحتاجها الأمة؛ بعد أن أكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسالة، وأوضح للمسلمين أمورَ حياتهم بكل وضوح ودقة. يقولون: "الفاضي يصير قاضي"! وهذا يبدو صحيحاً على حال بعض المفتين الذين يلتقطون حكايا أو مواضيع -قد تكون مخجلة- مع اعترافنا بأنه لا حياء في الدين، ولكن نقصد المواضيع فائقة الحساسية التي لا تؤثر على إسلام الشخص لو لم يمارسها. فمجال الغناء والسينما والتمثيل مثلاً يُعيل مئات بل آلاف العائلات ويوفر دخولاً لها تحميها من الانحراف والبطالة، وليس القصد منها فقط إبراز المغنية أو الممثلة! كما أن لهذه الفنون أهدافاً اجتماعية وسياسية -وإن اختلفنا على مشاهد التعري أو خدش الحياء، والمبالغة فيها دون أن يكون لها مبرر في الحدث الدرامي، فذلك من أساليب الإثارة المرفوضة ونحن ضده. والسينما، وإن كانت وسيلة ترفيه، إلا أنها تقدم لنا فناً راقياً، ويكفينا أن نشاهد الفضائيات الأجنبية -ضمن حزمات خليجية- ففيها مشاهد راقية وقصص جذابة في العبرة، وخيال واسع، و90% من هذه الأفلام لا يتضمن مشاهد إباحية. كما أن التمثيل عبر المسلسلات عرّف المسلمين بتاريخهم الماضي، ولنا في مسلسل "عمر" المثال الأوضح، حيث عرّج على مواقف كانت غير واضحة في الكتب. وقضية الاختلاط أيضاً دار حولها نقاش طويل، ولقد شاهدنا خلال مسلسل "عمر" في رمضان الفائت كيف كانت المسلمات يُسعفن الجرحى في حروب المسلمين الأولى ضد المشركين، بل ويحملن السلاح ويقاتلن جنباً إلى جنب مع الرجال. حريٌّ بالمفتين الالتفات إلى قضايا الشباب وحُسن توجيههم ودعوة الحكومات إلى العدل، وبث روح الانتماء للمجتمع الإنساني والتحبب للآخرين بأسلوب عفٍّ كريم. وحريٌّ بهم الدعوة إلى التسامح وتشجيع قيام أعمال الخير وإغاثة الملهوفين ونصرة المظلومين، ففي ذلك خير أكثر من تلك الفتاوى الغريبة التي لا تقدّم ولا تؤخر.