في القاهرة بقعة، يقول المؤرخ أحمد أمين، يسميها المصريون "قنطرة اللي كفر"! وأصلها، يضيف، أن رجلاً بارزاً من رجال الحملة الفرنسية كان اسمه "كفرللي"، فحرّفوه إلى "اللي كفر". وكان يسكن قرب قنطرة هناك، فبدلاً من أن يسموها "قنطرة كفرللي"، قالوا "قنطرة اللي كفر". جاء في صحيفة "القبس" الكويتية قبل سنوات، أن مباحث القاهرة ألقت القبض على صاحب مقهى بأحد الأحياء الشعبية يقتني بعض اللوحات الأصلية من كتاب "وصف مصر" الشهير، دون أن يدري قيمتها التاريخية الثمينة. وذكرت صحيفة "المساء" أن خبراء الآثار أكدوا أن اللوحات المضبوطة هي الصور الأصلية لبعض المناظر الطبيعية التي قام فنانو فرنسا بتصويرها للحياة الطبيعية في مصر أثناء الحملة الفرنسية، والموجودة صورها بكتاب "وصف مصر". وكانت الصور لا تزال تحتفظ بأهميتها التاريخية والإنسانية، وجاء في الخبر أنها "صور متفرقة تمت سرقتها من فرنسا"! دخلت مكتبة تجارية في القاهرة قبل سنوات، وإذا بها متخصصة في طباعة وبيع وثائق الحملة الفرنسية على مصر، والتي قادها نابليون سنة 1798. ووجدت سلسلة من هذه الوثائق في 12 بلداً سعرها سبعمائة دولار. ولا أدري إن كانت أي جهة في مصر قد حصرت حتى الآن وثائق هذه الحملة البالغة الأهمية تاريخياً وحضارياً. وسأشرح للقارئ سبب شكوكي! نشرت صحيفة الحياة في 1997/1/12 خبراً قال فيه رئيس دار الكتب والوثائق المصرية محمود فهمي حجازي، إن الدار ستطبع وثائق الحملة الفرنسية. وأضاف أن لدى الدار 26 ألف وثيقة تتعلق بالحملة باللغات الفرنسية والتركية والإنجليزية والألمانية والعربية، وأن "عدداً كبيراً منها بالفرنسية وبعضها لا نسخ منه لدى فرنسا". وتشمل الوثائق الأوامر اليومية لقادة الحملة والبيانات التي كانوا يذيعونها على الشعب المصري بالعربية والفرنسية. وعن نشر هذه الوثائق دون ترجمة إلى العربية قال السيد حجازي "إن الترجمة والتحقيق يستغرقان وقتاً ويحتاجان تكلفة مادية لا تتوافر لدار الوثائق". وأضاف: "إن عدداً كبيراً من الباحثين لا يعرفون أن لدينا هذه الوثائق، إذ لم يتح لهم الاطلاع عليها ولا أعلن عن وجودها أصلاً، وهناك وثائق كانت في حكم المفقودة وجدناها لدينا". والعجيب حقاً، أن صحيفة الشرق الأوسط، نشرت في نفس التاريخ، بعد عشر سنوات 2007/1/12، خبراً عن العثور على المزيد من هذه الوثائق.. بالصدفة البحتة! وجاء في التقرير الذي كتبه مراسل الصحيفة في القاهرة علاء كمال، ما يلي: "عثر العاملون بالمكتبة المركزية لجامعة القاهرة، أول من أمس، وأثناء قيامهم بنقل محتويات المكتبة إلى مقرها الجديد بالجامعة، المقرر افتتاحه في بداية شهر فبراير المقبل، على المستندات الأصلية والوثائق الكاملة للحملة الفرنسية على مصر، بما فيها القرارات السرية التي أصدرها نابليون بونابرت وكتبها بخط يده أثناء وجوده في مصر. كما عثروا على مخطوطات للدكتور جمال حمدان، عالم الجغرافيا الراحل، الذي توفي في ظروف غامضة في عام 1993، ومن أشهر مؤلفاته كتاب "شخصية مصر".وأضاف معد التقرير الصحفي قائلاً: "وقد تم العثور على تلك المستندات بطريق الصدفة، عندما كان العاملون بالمكتبة ينقلون محتوياتها إلى المقر الجديد، الذي تم الانتهاء منه، فعثروا على مجموعة من المستندات غير المفهرسة في المكتبة، وعند قيامهم بفتحها لمعرفة محتوياتها فوجئوا بأنها تحتوي على النسخة الأصلية لأسرار ووثائق الحملة الفرنسية على مصر 1798-1801، فأسرعوا بإبلاغ المسؤولين، الذين أعلنوا أن تلك الوثائق لا تقدر بثمن، إذ لا يوجد مثيل لها في العالم، إلى جانب أنها تكشف أسراراً جديدة لم يسبق الإعلان عنها فيما يتعلق بذلك الحدث التاريخي، الذي غير الكثير من مظاهر الحياة في مصر، وكان له أثره على الامبراطورية الفرنسية ذاتها. وقد أعلن المسؤولون عن الجامعة، أنهم بصدد دراسة محتويات الوثائق وإعداد نسخ الكترونية منها، قبل عرضها في احتفالات الجامعة بافتتاح المكتبة المركزية الجديدة". ولنا أن نتساءل: هل الوثائق التي كانت بحوزة دار الكتب المصرية عن الحملة الفرنسية، والتي جاء في الخبر نفسه، أن نشرها سيكتمل عام 1998، بمناسبة مرور قرنين على حملة نابليون، تختلف تماماً عن وثائق مكتبة جامعة القاهرة؟ ولماذا لم يجر التنسيق ومحاولة استكمال الوثائق بين المكتبتين بل وأي دور أخرى للوثائق المماثلة؟ وهل طبعت هذه المجموعة البالغة الأهمية من الوثائق التي وجدت في مكتبة القاهرة؟ نتمنى أن تكون الجهات المسؤولة قد أنجزت طباعتها وفهرستها كي تكون صالحة للاستفادة العامة من قبل الدارسين. قام الأديب المصري المعروف جمال الغيطاني قبل عامين بإلقاء محاضرة شيقة في "مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي" بالكويت، نشرت أخبارها الصحافة، القبس 2008/3/8. ولم تكن محاضرة الغيطاني عن الشعر أو النثر الأدبي، بل عن كتاب "وصف عمر" المشار إليه، حيث أعرب عن سروره البالغ لوجود نسخة نادرة من الكتاب في مكتبة البابطين العامرة، كان قد اقتناها شقيق الأستاذ عبدالعزيز، عبدالكريم البابطين. وقد برأ الغيطاني نابليون من تهمة كسر أنف "أبو الهول" ولحيته، وبيّن أن الذي فعل ذلك هو رجل رأى في المنام أنه يحطم التمثال، فأمضى شهراً في محاولاته التي لم تسفر إلا عن كسر الأنف واللحية! ودعا الغيطاني الجمهور، كما جاء في الصحيفة، لزيارة مصر، وبأنه سيتبرع بأن يكون دليلهم وقال: "من أراد ذلك فسوف أترك رقم هاتفي". ولكن لم يعلن عن المبلغ الذي اقتنى به عبدالكريم البابطين الكتاب. كانت حملة نابليون على مصر وموسوعة "وصف مصر" موضع اهتمام للباحثين على امتداد أكثر من قرنين. ومن الكتب التي صدرت في فرنسا كتاب "علماء بونابرت" عام 2001، للباحث الفرنسي روبرت سول. والذي عرضته صحيفة "الحياة" في عددها الصادر يوم 2001/9/9. كان الحافز الأول لحملة بونابرت على مصر، كما جاء في المقال، من طبيعة استراتيجية، أي "قطع طريق الهند على المنافسة الكبرى لفرنسا.. إنجلترا". وكانت الحملة تلبي كذلك الطموح الشخصي لنابليون، ولهذا، فإن جيش الحملة النابليونية المؤلف من نحو خمسين ألف رجل، لم يضم ضباطاً وجنوداً فحسب، بل كذلك علماء، ومن مختلف الاختصاصات في الميكانيكا والمساحة والجيولوجيا والآثار والكيمياء والطباعة والطب والهندسة والرسم الصناعي والتاريخ الطبيعي... الخ. كان عدد هؤلاء العلماء نحواً من مئة وسبعين، منهم مشاهير كالكيميائي، "برتوليه" والرياضي "مونج"، وقد أصدر نابليون بعد شهر من احتلال القاهرة قراراً بتشكيل "معهد مصر" على غرار "معهد فرنسا" العلمي الشهير ليقوم بمهمة "نشر الأنوار في مصر" و"دراسة وقائعها الطبيعية والصناعية والتاريخية". وقد تعاقب على رئاسة "معهد مصر" سبعة علماء، بمن فيهم نابليون نفسه، وعقد على مدى العامين اللذين دامتهما الحملة 62 جلسة، قُرئت ونوقشت فيها مئات التقارير والمذكرات، التي كانت بمثابة المادة الأولية التي تتألف منها محتويات كتاب "وصف مصر". في 6 فبراير 1802، بعد ستة أشهر من ترحيل الفرنسيين من مصر على متن المراكب الإنجليزية، تقول صحيفة "الحياة"، أصدر وزير الداخلية الفرنسي، الكيميائي المشهور "جان شابتال"، قراراً بتشكيل لجنة من ثمانية أعضاء لنشر "وصف مصر". وقد وُضعت تحت تصرف اللجنة طاقات مالية وتقنية خارج للمألوف، وحُدد لطبعها 270 رساماً وطباعاً، وأُنشئ برسمها معمل خاص للورق لا مثيل له في كل أوروبا، وطُورت كذلك تقنية خاصة لصب صفائح الطباعة النحاسية بحجم كبير يزيد على المتر طولاً وعلى ثلاثة أرباع المتر عرضاً. وقد صدرت المجلدات العشرون من "وصف مصر" في عام 1810 مهداة إلى نابليون - الذي كان صار امبراطوراً، بمقدمة استغرقت المجلد الأول بتمامه عن مصر "أغنى متحف في الكون"، مع إشادة بالحضارة المصرية القديمة بوصفها "أول حضارة للعقل في التاريخ"، ولم تدخل المقدمة في عراقة وقدم تاريخ مصر مراعاة للتصور السائد حينذاك عن خلق العالم الذي كانت الكنيسة ترده إلى أربعة آلاف سنة فقط قبل الميلاد. وفي عام 1821 صدرت طبعة جديدة من الموسوعة في ستة وعشرين مجلداً مهداة هذه المرة إلى الملك لويس الثامن عشر. وقد بلغ اجمالي حجم الموسوعة 7200 صفحة من النصوص وثلاثة آلاف من الرسوم، إضافة إلى خريطة مفصلة لمصر وفلسطين استغرقت 47 صفحة كاملة. وقد تناولت الموسوعة بالطبع مصر الفرعونية، ولكن هذا القسم فقد كثيراً من أهميته نظراً إلى أن العلماء حرروا مذكراتهم عن التاريخ الفرعوني قبل أن يتوصل "شامبليون" إلى قراءة حجر رشيد، وفك لغز الكتابة الهيروغليفية. ولا أحد يعلم كم كان سيكون حجم الموسوعة لو أن علماء الحملة كانوا يعرفون هذه اللغة! لم تتعدد النسخ المطبوعة من "وصف مصر" الألف نسخة من الطبعة الأولى، والألفين من الطبعة الثانية، وصحيح أن الموسوعة كتبت بالفرنسية وبرسم النخبة العلمية الفرنسية إلا أنها أثرت في تكوين النخبة المثقفة المصرية الحديثة. فقد كان أول من اطلع عليها "رفاعة رافع الطهطاوي" وسائر أعضاء البعثة المصرية عام 1826، وأشاد بها رائد الوطنية المصرية "مصطفى كامل"، كما أشاد بالدور الذي لعبته "فرنسا الكريمة بإيقاظها مصر من سباتها العميق". ولهذا قيل: "لقد جاء نابليون إلى مصر مع المدافع والمطبعة. ولقد ذهبت المدافع وبقيت المطبعة". خليل علي حيدر