الأزمة التي أثارها الفيلم المسمى "براءة المسلمين" التي كان كثيرون يخشون أن تخرج عن السيطرة، يبدو أنها بدأت تنحسر عبر العالم العربي، ويبدو أن دعوة المتطرفين إلى تصعيد الوضع قد تراجعت وأفسحت الطريق أمام دعوات أكثر حصافة وروية. والواقع أن واشنطن تصرفت أيضاً بحكمة لأنها لم تصب الزيت على نار الاضطرابات المستعرة حيث رفضت إدارة أوباما أن تستفَز وتجر من قبل مهاجمين متعصبين ومتهورين إلى التصعيد أو الانخراط في عرض قوة. وبدلاً من ذلك، أرسل الرئيس أوباما قوة صغيرة من جنود "المارينز" إلى حيث توجد حاجة إليهم بقصد تعزيز أمن السفارة، وتحدّث أيضاً بحزم وعلى انفراد مع بعض الزعماء العرب مؤكداً أنه لابد من اتخاذ إجراءات حاسمة وسريعة لوقف الاضطرابات وتوقيف الأشخاص الذين قتلوا الموظفين الأميركيين وانتهكوا حرمة السفارة الأميركية. ومن جانبهم، رفض الزعماء العرب في معظم البلدان أن يُجروا من قبل المتطرفين (على الجانبين، أولئك الذين صنعوا الفيديو الركيك المسيء، وأولئك الذين استغلوا الوضع لتحقيق مآرب سياسية). وفي مصر وليبيا وتونس واليمن، اتخذ زعماء سياسيون ودينيون مسؤولون إجراءات ملموسة لاستعادة الهدوء. غير أنه إذا تم تجنب الأزمة، فإننا لم نخرج بعد من النفق. ذلك أن ما حدث هو أن أعمال الشغب وردود الفعل العنيفة التي حدثت لم تكشف عن حقول ألغام فحسب، ولكنها كشفت أيضاً عن مشاكل عميقة في الفهم بين أميركا والعالمين العربي والإسلامي. ذلك أن معظم الأميركيين ما زالوا لا يعرفون سوى القليل عن الإسلام ويجهلون الكثير عن العالم العربي. ولأن الولايات المتحدة منخرطة بشكل عميق في المنطقة، فإن هذا الجهل يشكل عائقاً كبيراً بالنسبة لها. وكمثال على ذلك، في صباح الاثنين الماضي، قدم "جو سكاربورو"، وهو مقدم تلفزيوني ذو توجه محافظ يتصف بالرصانة أحياناً، التفسير التالي للاضطرابات: "أتعلمون لماذا يكرهوننا؟ لقد تحدثتُ مع رجال الاستخبارات طيلة عطلة نهاية الأسبوع. إنهم يكرهوننا بسبب دينهم، وبسبب ثقافتهم، ولأنهم يريدوننا أن نكون مثلهم… فكروا في كل الأعمال الوحشية -الأعمال الوحشية المنفلتة التي رأيناها عبر الشرق الأوسط والعالم العربي بسبب فيلم فظ... وإذا حفرتم تحت السطح قليلاً وأعطيتم كل رجل، من البائع الجائل وحتى رئيس الوزراء، فرصة لرمي السفارة الأميركية بالحجارة، فسيفعل". غير أن تشهير كل العرب وتقديمهم على أنهم كتلة من الكراهية التي لا يمكن السيطرة عليها إلا عبر التصميم والقوة لاشك أنه أمر غبي وخطير وعنصري في آن واحد. وهو بالطبع خاطئ تماماً. فمثلما تُظهر استطلاعات الرأي التي نجريها، فإن معدلات الرضا الشعبي عن الولايات المتحدة متدنية عبر المنطقة بسبب السياسات الأميركية في الحقيقة، وليس بسبب دين العرب أو ثقافتهم. كما تُظهر استطلاعاتنا أن العرب يحبون الثقافة والشعب الأميركيين، ويحترمون القيم والإنجازات الأميركية -ولكن بسبب السياسات الأميركية، فهم مقتنعون بأننا لا نحبهم ولا نحترمهم. ثم إن العرب، من "البائع الجائل وحتى رئيس الوزراء"، ليسوا على رأي واحد. فعلى رغم مشاعر الغضب الواسعة من الطريقة التي تعاملهم بها أميركا، إلا أن معظم العرب لم يتظاهروا أمام السفارات الأميركية وليسوا حتى من مؤيدي هذه الأعمال. بل إنني أتحدى "جو سكاربورو" على أنه في الليلة التي وقعت فيها المظاهرات كان معظم العرب في منازلهم يتناولون العشاء مع عائلاتهم أو يشاهدون فيلما على التلفزيون. وحين آووا إلى الفراش في تلك الليلة، لم يكن معظمهم "يكرهون أميركا"، بل كانوا قلقين بشأن وظائفهم، ومنشغلين بشأن أطفالهم، ويتساءلون عما إن كانوا سيستطيعون دفع الفواتير في نهاية الشهر. وتماماً مثلما أنه سيكون من الخطأ أن يقوم بعض العرب بالتعميم ويعتبروا أن كل الأميركيين يناصبون الإسلام العداء لأن بعض الأميركيين تعبأوا ضد مشروع بناء مركز إسلامي في مانهاتن، فإنه من الخطأ أيضاً أن يقوم "سكاربورو" ورفاقه بالتعميم واعتبار أن أولئك الذين هاجموا السفارة أو الذين قتلوا كريس ستيفنز يمثلون كل العرب والمسلمين. غير أنه إذا كانت الحاجة إلى معرفة العرب، مثلما هم في الواقع وليس مثلما يتخيلهم المتعصبون والمتأدلجون، تظل تحدياً حقيقياً بالنسبة للأميركيين، فإن على العرب أيضاً أن يحسنوا معرفتهم بأميركا والأميركيين. والواقع أنني كثيراً ما سئلت: "لماذا لم يتم توقيف مخرج الفيلم؟"، و"ماذا تعني بقولك ليس لديكم قانون ضد الإساءة للدين؟ أليس لديكم قانون يحظر معاداة السامية وإنكار المحرقة النازية ضد اليهود؟"، وكذلك "أوباما مسؤول عن هذا، ألا ينبغي عليه أن يعتذر؟".. إلخ. وكلها أسئلة تنم عن عدم إلمام حقيقي بالدستور الأميركي وبالقانون والثقافة الأميركيين. وبالطبع، لو كان للولايات المتحدة مثل هذا القانون ولم تعمل على إنفاذه، فإن مشاعر الغضب قد تكون مبررة. إلا أنه ليس ثمة قانون من هذا القبيل، ولا يمكن أن يكون. لقد ندد الرئيس بالفيلم المسيء، ولكنه أوضح أن الدستور الأميركي يكفل حرية التعبير. ولذلك، فإنه لا يمكن أن يتم تمرير قانون لكبح تلك الحرية، بغض النظر عن المدى الذي تتم به إساءة استغلالها. قد يكون لدى بعض البلدان الأوروبية قانون يحظر "إنكار المحرقة"، ولكن الولايات المتحدة ليس لديها قانون مماثل. ومعاداة السامية أيضاً ليست ممنوعة بحكم القانون في الولايات المتحدة؛ فالدفاع ضد الخطاب العنصري أو المتعصب يتم في محكمة الرأي العام -وليس في محكمة القضاء. وإذا كان اليهود والأميركيون الأفارقة وآخرون قد استطاعوا فعلياً تعبئة الرأي العام وجعلوا من غير المقبول استعمال لغة متعصبة ضد مجموعاتهم، فإن العرب والمسلمين ما زالوا حديثي العهد بهذا الجهد. غير أن ثمة بعض التقدم الذي تم تحقيقه. فعلى رغم أنهم ما زالوا يعانون من الانحياز، إلا أن ثمة مجموعة مهمة ومتزايدة من المؤيدين الذين سيرفعون أصواتهم للتعبير عن رفضهم وتنديديهم بالخطابات المسيئة المعادية للعرب وللمسلمين. وهم يفعلون ذلك في الحقيقة، بشكل منتظم.