لا شك أن أوروبا تمر اليوم بأزمة اقتصادية عميقة، وبمرحلة يتعادل فيها التفاؤل بمستقبل الوحدة الأوروبية، مع التشاؤم من انفراط عقدها. وعلى رغم هذه الصعاب الاقتصادية، إلا أن التجربة الأوروبية في الوحدة والتنسيق بين سبع وعشرين دولة وخمسمائة مليون مستهلك في سوق واسعة، ومئات الجامعات والمعاهد والكليات، ينتقل بين رحابها الطلاب من دولة إلى أخرى، تمثل تجربة فريدة في التكامل العضوي والمصلحي. ومثل هذه التجربة كانت وستظل في المستقبل مثالاً يمكن لتجمعات إقليمية أخرى مثل مجلس التعاون، أن تستفيد من تجاربها وأطرها التنظيمية. وقد سنحت لكاتب هذا المقال فرصة أن يزور بعض مؤسسات الاتحاد الأوروبي هذا الأسبوع، ويطّلع على دقائق عمل بعض أنشطتها. والعودة إلى بروكسل، هي بالفعل عودة جميلة لهذا الكاتب بعد غياب أكثر من خمسة عشر عاماً، حين كان يبحث ويكتب عن بعض مؤسساتها وسياساتها. ولعل أبرز ما يلفت اهتمام الباحث في شؤون الاتحاد هو تغيُّر المفاهيم التجارية لدى صانعي القرار فيه، ففي الماضي، كان صانع القرار في سياسته التجارية، على سبيل المثال، ينظر بعين الريبة والشك في قرارات الشركات الكبرى بنقل بعض مصانعها وأنشطتها ومسارات إنتاجها إلى بلدان شرق آسيا مثل الصين والهند وفيتنام، وغيرها من البلدان، بعيداً عن القارة الأوروبية. وكان انتقال هذه الشركات يثير سخط نقابات العمال في أوروبا والولايات المتحدة، وربما لا تزال هذه النقابات تستشيط غضباً من إغلاق المصانع التي تعتمد على العمالة الكثيفة. غير أن مخططي القرار في الاتحاد، يرون عكس ذلك، فهم يرون أن أرباح هذه السلع ستعود مرة أخرى إلى دول الاتحاد، فجهاز الهاتف الذي يباع بمئة دولار ويجمَّع في الصين، نجد أن معظم أجزائه تأتي من أوروبا والولايات المتحدة واليابان، وكذلك برمجته. وبينما يجري تركيبه فقط في بعض المصانع الصينية، تحصل الشركات الصينية على 6 في المئة من القيمة النهائية للجهاز، بينما تحصل الدول الصناعية الأخرى على 94 في المئة من قيمته السوقية. فالعبرة إذن ليست في ميزان المدفوعات، كما كان الاقتصاديون يرون في الماضي، بل في القيمة المضافة للسلعة، خاصة في السلع الصناعية والاستهلاكية، وفي الخدمات. وهذا المفهوم الجديد الذي يركز على القيمة المضافة لكل بلد، لم يكن معروفاً في الماضي، بل أصبح جزءاً من واقع إنتاجي جديد يصبح العالم فيه مسرحاً ومصنعاً لإنتاج سلعة تجمَّع من كل بلد على حدة، وتباع في أسواق بعيدة عن مصانع إنتاجها. ويسعى كل لاعب في هذه العملية إلى تعظيم نسبة ما يحصل عليه من عائد من الناتج النهائي أو القيمة النهائية للسلعة. أما النقطة الثانية، التي طرحت، فهي أنه عبر التحكم في الأسواق باتت بعض الشركات العالمية الكبرى تسعى إلى عكس النمط القديم من إنتاج "الأوف شور"، وتحاول أن تكون قريبة من المستهلكين النهائيين "الأون شور". ومثل هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة أعمق من مثل هذه المقارنة العابرة. والموضوع الآخر الذي أثار اهتمامي بالم...... الأوروبي المؤسسي، هو التنظيم الخاص بمركز الأزمات والكوارث بالاتحاد، ومثل هذا المركز يسعى إلى أن يستبق الأحداث على الأرض سواء السياسية منها (مثل الأزمة السورية على سبيل المثال)، أو الحوادث والكوارث الطبيعية التي تحتاج إلى تدخل عاجل، وعمليات إنقاذ وإغاثة منسقة. وقد استحدث الاتحاد ما يعرف بغرفة العمليات للكوارث والأزمات، التي يجتمع فيها أهل الشأن على طاولة واحدة على مدار الساعة. وتجمع هذه الغرفة المعلومات الأساسية عن تطوّر الأحداث والحروب، قبل حدوثها، ورصد تطوراتها ومحاولة استخدام الدبلوماسية والمبعوثين للحيلولة دون اندلاعها. وإذا اندلعت تكون لدى الغرفة العمليات والمعلومات الكاملة عنها أولاً بأول، وتتصل مباشرة بأعلى مرجعية سياسية في الاتحاد لإطلاعه على التطورات كاملة، قبل أن تصل إليه المعلومات عن طريق الإعلام. ومثل هذا المركز قادر على التنسيق مع المراكز الوطنية للكوارث في الدول الأعضاء نفسها، والاتصال والتنسيق مع القيادات العسكرية والسلطات الأمنية والدفاع المدني على الأرض، وتأمين كل احتياجات الناس في حالة الكوارث من مياه الشرب والغذاء وغيرها. وقد ذكر مدير المركز أن الولايات المتحدة طلبت من المركز الأوروبي كميات من الغذاء إبان إعصار كاترينا قبل عدة أعوام، وأرسلت حينئذ طائرتين محملتين بالغذاء إلى أقرب مطار عسكري في أركنساس لإغاثة المتضررين، كما طلبت اليابان في العام الماضي إبان أزمة "فوكوشيما" النووية كميات من مياه الشرب من أوروبا، وبالفعل أرسلت إليها على وجه السرعة. واليوم وبعد أن قرر مجلس وزراء مجلس التعاون لدول الخليج العربية إنشاء مركز للكوارث والتدخل الإنساني السريع في الكويت، فإن هناك حاجة ماسَّة إلى دراسة التجربة الأوروبية والاستفادة منها، بل والتنسيق معها ومع أقرانها من المراكز المماثلة في دول العالم المختلفة. فبلادنا العربية تتعرض للكثير من المخاطر والزلازل والحروب، وهي بحاجة إلى تبني مثل هذه النماذج الحيَّة والناجحة في الإغاثة وإدارة الأزمات. ولا شك أن هناك ملامح وأبعاداً أخرى في التجربة الأوروبية، ومنها عملية صنع القرار نفسه، السياسي منه والاقتصادي. ويتطلب ذلك استشارة المجالس المنتخبة مثل البرلمان الأوروبي، والاستماع إلى آراء أصحاب الشأن في الدول الأعضاء عبر المجلس الاقتصادي والاجتماعي. وبالتالي تتم في الاتحاد صياغة القرارات على أساس ثلاثي بين مجلس وزراء الاتحاد والمفوضية الأوروبية ورئيس البرلمان الأوروبي، وبعض أعضائه. وربما يسم البعض مثل هذه الصياغة للقوانين والقرارات بأنها لا تمثل عملية صياغة ديمقراطية كاملة، إلا أنها على الأقل تأخذ في الحسبان مصالح وآراء فئات أوسع بدلاً من البيروقراطيين الذين اعتادوا أن يتخذوا القرارات بأنفسهم.