المنطقة العربية هي مصدر التوتر في العالم، وهي المنطقة التي تستحوذ على طاقة التفكير لسياسته، فهي مسؤولة في نظر البعض بشكل أو بآخر عن تحديات الإرهاب العالمي، وخصوصاً حركة بن لادن، التي لم تكن وليداً جديداً بقدر ما كانت نتاجاً لسياسة عالمية استخدمت فيها الأيديولوجيا الدينية المتطرفة لمحاربة الفكر الشيوعي وحتى الفكر الليبرالي. فالحالة العربية تشكل حالة معقدة يتداخل فيها الإسلام مع العروبة، مما أوجد قناعة لدى أطراف في العالم بضرورة تغيير جغرافية المنطقة على غرار ما حدث في أوروبا الشرقية، وجاء العراق ليشكل البداية، وتبعته ثورة "الربيع العربي" التي قادها الشباب لتقلب الموازين، فهي في بعض الجمهوريات العربية حراك طبيعي يعبر عن حالة اختناق مجتمعية. والحراك الشبابي لم يكن وليداً للأحزاب التقليدية، فهو كما يوصف دون زعامة ولا قيادة منظمة مما يفتح النقاش حول حال النخبة العربية وعجزها عن لعب دورها في تحريك الشارع أو تبني مطالب العامة من شعوبها. والتساؤل المشروع الآن هو حول مستقبل هذا التحول في ظل غياب القيادة الشابة التي حركت الثورة وأطاحت بركائز أنظمة كانت عصية. وتحليلنا للموقف ينبع من أن طبيعة النخب السياسية العربية هي نتاج لمدرسة فكرية واحدة لا تختلف في تكوينها عن التكوين الثقافي والاجتماعي لأنظمة الحكم نفسها، مما يصعّب من عملية التحول لكون من يعارض التحولات الجذرية ليس النظام ومؤسساته، كما أن الأحزاب التقليدية ترى أنه ليس من مصلحتها تقديم بدائل شابة تتزعم العمل السياسي. وإذن فنحن أمام حالة معقدة، وفي نفس الوقت تحولات الربيع العربي تعبر عن رغبة شعبية يقودها الشباب نحو دول جديدة تتاح فيها الفرصة لتحقيق مبادئ العدالة الغائبة، وهذا ما يجعل الدول الغربية في حالة صراع بين رغبة الإصلاح نحو شرق أوسط جديد تسوده ديمقراطية مبتدئة، أو التضامن مع النظم. والغرب يعي أن الاستفراد بالحكم ليس لصالحه لكونه يفرز فئات من الشباب المتمرد الذي قد يغذي التطرف الفكري في أنواعه المختلفة، وهو كذلك يباعد المسافة بينه وبين شباب يتطلع للتغيير. كما أنه يسعى لضمان مصالحه ويخاف من التحولات الراديكالية المعادية للحضارة الغربية. فالضرورة والحنكة الاستراتيجية تفرضان وجودهما إذا ما كان الغرب جاداً في تحقيق التغيير، فإزاحة ديكتاتوريات كما حدث في إيران الشاه واستبدالها بنظام بصبغة إيديولوجية معادية للديمقراطية لن يخدم المصالح المشتركة، بل إنه يساهم في مزيد من العداء للغرب الديمقراطي باعتباره تاريخياً مسانداً لنظم استبدادية. وتجدر هنا الإشارة إلى الطبيعة الديموغرافية للمنطقة العربية التي يشكل فيها الشباب الغالبية، وهؤلاء لا يمكن تجاهلهم لكونهم هم الجيل الصاعد الذي يتوقع له أن يحتل مركز صنع القرار، ومن الخطأ أن يتجاهل الغرب هذه الشريحة الواسعة ويرمي بثقله مع نظم بطبيعتها غير قادرة على استيعاب ضرورة التغير. لكن الغرب يرى أن النموذج التركي هو المخرج لكونه نموذجاً توافقياً يقدم معادلة الإسلام والحضارة العالمية بشكل يضمن تطوير دولة نموذجية، تتعايش وتتفاعل مع مختلف الثقافات. والحال أن فوز "الإخوان المسلمين" في مصر يعكس طبيعة التكوين للصوت الانتخابي، فهو ليس بفوز ساحق ولا يمكنهم التفرد بالحكم ولا يملكون سوى الاعتراف بالقوى السياسية الفاعلة وخصوصاً الشباب الذي رفع شعار "ارحل". وإذن فإن طبيعة المخاض العربي تفرض وجودها على النخب سواء التقليدية المجاملة للسلطة، أو النخب الوليدة للحراك الشبابي التي ستحافظ على وجودها وستعمل على إعادة التوازن المفقود الذي أخل بركائز المجتمع وأدى إلى رحيل النظم الاستبدادية. والغرب لاشك يعي طبيعة الحراك الاجتماعي وسيسعى إلى مد الجسور مع القوى الاجتماعية الفاعلة المحركة لمجتمعات راكدة تحمل تناقضات اجتماعية خطيرة من شأنها أن تطيح بكل أنواع الاحتقان والانسداد.