دخلت كلمة "الوعي" سوق المراهنات على مستقبل المنطقة منذ بداية "الربيع العربي"، فكلما تحدثت مع أحد بشأن أحداث الساعة، قال بعد السلام والتحية: الوعي، وعي التونسيين، وعي المصريين، وعي الليبيين، وعي الشعوب.. إلخ. وفعلاً، وعي الناس هو العامل الحاسم في المنعطفات التاريخية وفي لحظات تقرير المصير، ولولا وعي الشباب الألماني في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم بخطورة الفكر النازي وضرورة التصدي له لربما سقطت ألمانيا في يد هتلر آخر. وفي الوقت نفسه، فإن الغوغائيين يستطيعون تحريك الأحداث وفرض الأمر الواقع، فلولا الغوغائيين الذين أخذوا يلتفون حول هتلر ويهتفون له إلى أن أصبح زعيماً بلا منازع، لما وقعت الحرب العالمية الثانية. والغوغاء حسب معاجم اللغة هم سفلة الناس، أو الكثير المختلط من الناس، وقيل هم الذين إذا اجتمعوا غَلَبوا، وإذا تفرّقوا لم يُعرفوا. ويخدع نفسه من يضع بيض أحلامه في سلّة الوعي، إذ لابد أن يضع في حسبانه الغوغائيين الذين قد يمزّقون السلّة بأسنانهم ويكسرون البيض تحت أقدامهم. الآن لدينا سُنة وشيعة وطوائف أخرى، وقد جرت أنهار من الدماء بينهم على مرّ العصور، وحين نعود إلى الوراء، إلى بدايات الخلاف أو الفتنة الكبرى، سنجد الغوغائيين هم الذين تسبّبوا في كل ما جرى منذ 1400 سنة، وقد تستمر نتائج فعلتهم إلى أن تقوم الساعة. فقد حاصر الغوغائيون بيت خليفة المسلمين عثمان بن عفان، وتسوّر بعضهم داره وقتلوه وهو يقرأ كتاب الله. ثم جرت أمور وفتن انتهت بتقابل فئتين عظيمتين من المسلمين في منطقة بين الشام والعراق تدعى صفّين، وبعد قتال دام أياماً وليالي، كان من الممكن إخماد تلك الفتنة إلى الأبد لولا تدخّل عشرين ألفاً من الغوغائيين الذين كانوا في جيش الإمام علي، ويشكّلون نحو 75 بالمئة من جنده، وإرغامهم قائدهم على قبول التحكيم بعد أن رأوا المصاحف مرفوعة على أسنّة الرماح. والغريب أن كل الحكماء الذين مرّوا على الأمة الإسلامية منذ الفتنة الكبرى وإلى يومنا هذا، وكل القادة، وكل العلماء الأفذاذ، لم يستطيعوا مداواة الجرح الذي تسبّب الغوغائيون في إحداثه في لحظة من لحظات التاريخ. ولو كانت الاعتداءات التي تعرّضت لها بعض السفارات الغربية في بعض الدول العربية من قبل جموع من الغوغائيين هي الوحيدة من نوعها، لربما قلنا إن الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم خط أحمر، وقد تسبّب ذلك الفيلم التافه في إخراج الناس عن طورهم، لكن الحقيقة أن الاعتداء على السفارات هي واحدة من تجليات الغوغاء، فقد سبقت تلك الاعتداءات اعتداءات أخرى على فنادق، ومعارض، وأضرحة، هنا وهناك، وعمليات سلب ونهب وحرق. لا يمكن أن نتصوّر أن البلدان المنكوبة يفتقر أهلها إلى الوعي، لكن الذي يمكن تصوّره وإثباته أن هذه البلدان سقطت في يد الغوغائيين، بحيث لم يعد يستطيع أحد فتح فمه بكلمة، إذ يرتعد الوعي خوفاً لمجرد رؤية الغوغاء، فهو عنيف ومتوحش ووقح ولا تهمه النتائج. وكلما تدخّل الغوغائيون في الأوضاع، سحبت جماعة "الوعي" يدها، إذ لا يمكن لمن لديه وعي أن يضع يده في شيء يضع الغوغائي يده فيه، حتى لو كان شأناً عاماً. والأفراد الذين لديهم وعي ليس أمامهم إلا البقاء في منازلهم على "الكنبة" ومشاهدة الغوغاء من خلال شاشات التلفزيون وهي تأخذ الأوطان إلى المجهول.