في مثل هذا الشهر من عام 2008 تفجرت الأزمة المالية العالمية والتي لا زالت تداعياتها تتوالى، وذلك رغم الإمكانيات الهائلة التي سخرت في الغرب والشرق لحلها ورغم عصارة أفكار أفضل اقتصاديي ومفكري العالم لإيجاد حلول عملية والاستعانة بمختلف النظريات الاقتصادية المعروفة، إلا أن الأمور تزداد تعقيداً بين فترة وأخرى، متقلبةً بين التفاؤل والتشاؤم في عملية قيصرية مكلفة. ومع أن أحداً لم يدّع بأنه يملك حلولاً سحرية تتلاشى معها الأزمة وترسباتها المؤلمة، فإن البحث عن مخرج لا يزال الشغل الشاغل لمتخذي القرار في العالم، لاسيما وأن أية حلول سوف لا تقتصر على الجوانب الإيجابية، بل سترافقها جوانب سلبية ربما تساهم في المزيد من المصاعب والتعقيدات إذا لم تنفذ وفق الرؤى المقررة. وهنا يمكن الإشارة إلى أهم اتجاهين عالميين في معالجة الأزمة المالية وتداعياتها، الأول هو منهج الاتحاد الأوروبي والكامن أساساً في سياسات التقشف الصارمة والهادفة إلى تقليص العجز في الموازنات الحكومية وتخفيض الديون السيادية، وهي المسائل الأساسية التي تواجه البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. أما الاتجاه الآخر، فإنه الاتجاه الأميركي والذي يتمحور حول أسلوب التسيير الكمي الذي اتبعه بنك الاحتياط الفيدرالي منذ بداية الأزمة عام 2008 والذي بموجبه يتم طبع أوراق الدولار دون سند مالي أو اقتصادي مهني، حيث تم طبع 1.7 تريليون دولار في الجولة الأولى، كما تقرر مؤخراً أن تبدأ الجولة الثالثة في شهر سبتمبر الجاري وبمعدل 40 مليار دولار شهرياً. والحقيقة أنه لكل من الاتجاهين إيجابياته وسلبياته، فالاتجاه الاوروبي الخاص بالتقشف أوجد تذمراً اجتماعياً واسعاً وأثّر في مستويات الناس المعيشية ورفع من معدل البطالة في البلدان الأوروبية، علماً بأن تأثيراته على خفض عجز الميزانية والقروض السيادية لا تزال محدودة وبحاجة إلى بعض الوقت حتى يتحقق شيء من نتائجها، علماً بان الاتحاد الأوروبي لجأ إلى سياسة التسيير الكمي، لكن في حدود ضيقة جداً. ومع أن الاتجاه الأميركي لم تترتب عليه قلاقل اجتماعية، فإنه زاد من معدلات التضخم التي طالما عمل الاحتياط الفيدرالي على محاربتها، في الوقت الذي توافر من خلاله المزيد من فرص العمل، وهو ما سعت إليه إدارة أوباما لتحسين حظوظه الانتخابية، لكن نتائجه على المدى البعيد ستكون وخيمة، عكس التوجه الأوروبي المعتدل. وحول النتائج المتوقعة، يتحدث بعض الاقتصاديين الغربيين عن إمكانية انهيار الدولار، لكن ذلك ربما يأتي ضمن المبالغات أو لإشعال المضاربات، فالدولار لا يزال العملة العالمية الأولى. ويبقى هناك الثعلب الإنجليزي الماكر الذي أمسك العصا من المنتصف وأخذ بالاتجاهين الأوروبي والأميركي، فعمد إلى التقشف، لكن بحدود لا تثير الرأي العام، فيما قام بنك إنجلترا المركزي بطباعة الجنيه ضمن مبدأ التسيير الكمي وفي حدود لا تؤدي إلى زيادة التضخم. وهنا نرى أن الاقتصاد البريطاني أفضل نسبياً من الاقتصاد الأميركي واقتصاديات منطقة اليورو. لذلك ربما تكون الوصفة أو الخلطة الإنجليزية، هي الأنسب لمواجهة تداعيات الأزمة، فهي تتيح تنشيط القطاعات الاقتصادية، وتوفير المزيد من فرص العمل، والحد من البطالة، وفي نفس الوقت التحكم في عجز الموازنة والديون من خلال التقشف المحدود والمدروس بعناية. أما بقية بلدان العالم والتي تأثرت بالأزمة بنسب متفاوتة، فالأدوات النقدية المالية والاقتصادية المتاحة أمامها محدودة، وذلك إذا ما استثنينا البلدان المصدرة للنفط والتي تتمتع بأوضاع مالية قوية ومستقرة بفضل ارتفاع أسعار النفط. وفي كل الأحوال، فإن حل القضايا العالقة الخاصة بتداعيات الأزمة أو التقليل منها في بلدان المركز، سوف تكون له انعكاسات إيجابية على اقتصادات الأطراف وعلى الاقتصاد العالمي ككل في حالة نجاح الجهود المبذولة عالمياً.