"أتنقلُ من جثة إلى أخرى، ولعبة القفز هذه ستنتهي حتماً إلى هذه المعجزة: صبرا وشاتيلا مسوّى بالأرض". كتب ذلك الأديب الفرنسي جان جينيه الذي كان بين أول الداخلين إلى مخيم صبرا وشاتيلا عقب المذبحة التي قضت قبل ثلاثين عاماً على حياة حوالي ألفي لاجئ معظمهم من الفلسطينيين. "أربع ساعات في شاتيلا"، عنوان شهادة جينيه التي تتضمن مشاهد تحطم القلب. "كانت المرأة الفلسطينية مسنة ربما لأن شعرها كان رمادياً. كانت متمددة على ظهرها، موضوعة أو ملقاة بشكل غير مستريح على ركام الحجارة، والقضبان الحديدية الملتوية. أدهشني أول الأمر وجود جديلة غريبة مصنوعة من حبل وقماش يمتدان من معصم إلى آخر، يمسكان بذراعين متباعدين أفقياً كما لو كانت مصلوبة. وجهها الأسود المنتفخ مستدير نحو السماء، كاشفاً عن فم مفتوح مقتّم بالذباب، وأسنان بدت لي بيضاء جداً، وبدا الوجه من دون أن تتحرك فيه عضلة كأنه يقطِّبُ، أو يبتسم، أو يصرخ صرخة صامتة. كانت جواربها من الصوف الأسود وفستانها ذو الأزهار الوردية والرمادية مشمراً قليلاً، أو لا أدري ما إذا كان جد قصير، يكشف عن أعلى ربلتي الساقين السوداوين المنتفختين، هل ضربوها بأخمص بندقية؟ أنظر سيدي يديها. لم أكن قد لاحظتُ أن الكفين منفرجتين، والأصابع العشرة مقطوعة، كأنما بمقصّات حدائق. لعل الجنود ضحكوا كالصبيان وغنوا فرحاً حين عثروا على هذه المقصات واستخدموها. أنظر سيدي أطراف أصابعها وأناملها مع الأظافر ملقاة على التراب". مذابح، مذابح، مذابح عمّدتنا أباً عن جد، وتُعمِّدنا الآن أحفاداً عن آباء. مخيم "صبرا وشاتيلا" هو النموذج الأصلي المُطوّر تحت إشراف إسرائيلي وإدارة غربية، إنه مختبر تطوير مذابح يلعب فيها العرب دور القتلى والقتلة. وكطرز الملابس والسيارات، أنتج الغرب للأجيال العربية المتوالية مذابح لهذا القرن، والعام، والشهر، واليوم. مذابح لا يمكن أن نزنها بالميزان، إلا إذا استخدمنا ميزان القلب، وهذا ما فعلته جدارية "صبرا وشاتيلا" التي رسمها الفنان العراقي ضياء العزاوي في خضّم الأحداث، واختفت منذ ربع قرن. ظهرت اللوحة أخيراً عندما اقتناها "تيت" لندن، أحد أكبر المتاحف العالمية للفن الحديث. ارتفاع اللوحة 3 أمتار، وعرضها نحو 8 أمتار وتغطي جداراً بكامله في المتحف. إنها ذاكرة العزاوي عن مخيم "صبرا وشاتيلا" الذي زار منازل أصدقائه فيه قبل المذبحة، وتجول في أزقته الضيقة. لوحة جدارية فسيفسائية مكتظة بتفاصيل موشومة، وأيدي تبتهل، أكف مبتورة تلوّح من بعيد، ووجوه ملتحية تتطاير جدائلها، ورؤوس ملوية الأعناق، تتضرع بعيون محفورة، وتهتف أفواهها الفاغرة، وتؤشر أصابعها المقطعة إلى أشلاء تعوم في كل اتجاه، وفي الزاوية السفلى إلى اليمين قدم تعتليها ساق منتفخة، ومشقوقة عرضياً، ومِزقُ كوفية فلسطينية هنا وهناك، وكرسي متداع، وطير يحلق في أسفل الجدارية، التي لا سماء فيها ولا أرض. ذكر العزاوي في أمسية افتتاح الجدارية في متحف "تيت" كيف فرش قماشة اللوحة على الأرض في منزله الذي لا يحتوي على جدار يسع اللوحة، وانكّب فوق القماشة، وشرع بالرسم من دون تخطيطات مسبقة. بعض النقاد الغربيين اعتبرها "غورنيكا العرب"، مقارنة بلوحة بيكاسو المشهورة عن قصف الطائرات الألمانية قرية إسبانية غداة الحرب العالمية الثانية. وقد تصح المقارنة لتماثلهما في الحجم، وأهميتهما السياسية والجمالية، إلا أنّ "صبرا وشاتيلا" ليست مرسومة مثل "غورنيكا" بتدرجات اللونين الأسود والأبيض فقط، بل فيها تدرجات حمراء قانية وباهتة، كأنها تمسح بالأنامل أجساد الضحايا. فالمذبحة لم يرتكبها قصف جوي، بل عمليات تعذيب، وذبح، واغتصاب، وتمزيق أطراف، وبتر أصابع. من المسؤول عن مذبحة "صبرا وشاتيلا"؟ تطرح السؤال شهادة جان جينيه التي تتضمن محادثة مع مؤرخ لبناني سأله: "عندما جئتم إلى بيروت ودمشق عام 1928 كانت دمشق مدمرة. وكان الجنرال الفرنسي جيرود وقواته من مشاة المغاربة والتونسيين يطلقون النار ويخلون دمشق من السكان، من المتهم بالجريمة في رأي سكان سوريا؟". يجيب جينيه: "نحن. فالسوريون اعتبروا فرنسا مسؤولة عن المذبحة، وعن تدمير دمشق". ويوضح المؤرخ: "نحن ندين إسرائيل بارتكاب مذبحة صبرا وشاتيلا، ولا نكتفي باتهام حزب الكتائب اللبناني الذي قام بالعمل نيابة عنهم. إسرائيل مسؤولة عن السماح لمجموعتين من الكتائب بدخول المخيم، وإصدار الأوامر لهم، وتشجيعهم خلال ثلاثة نهارات وثلاث ليال، وتجهيزهم بالطعام والشراب، وإضاءة المخيمات لهم في الليل". "لماذا لم يحاكم، ولو شخص واحد عن المذبحة، ولماذا لم يجرؤ حاكم عربي واحد على زيارة المخيم، ووضع باقة زهور على المقبرة الجماعية للضحايا؟"، يتساءل الصحفي البريطاني روبرت فيسك في مقالته "المذبحة المنسية"، المنشورة قبل أيام في صحيفة "إندبندنت". دخل فيسك مخيم "صبرا وشاتيلا" يوم 18 سبتمبر عندما لم يكن إطلاق النار قد توقف. كانت الأرض تتمايل تحت أقدامه، وانتبه إلى أنها مغطاة بالجثث، ولم ينقطع منذ ذلك الوقت عن زيارة المخيم، والكتابة طيلة ثلاثين سنة عن "المذبحة المنسية" التي لا تنسى، ولا تغتفر، بل تغور كالفالق الزلزالي في قلب المنطقة العربية، مُطلقةً فيها الزلازل في سبتمبر، وفي كل شهر، وعام، ذلك لأن الذاكرة ليست شريط فيديو محفوظاً نعرضه، عندما نتذكر حدثاً معيناً، أو كتاباً نسحبه من الرفوف، ونقلب صفحاته. الذاكرة أكثر تقلباً مما نتذكر، وكل تَذّكر عملية خلق، ومسامرة منسوجة من مصفوفة تأويلات مختلفة. ندرك ذلك عندما تختلط علينا أحداث لا نعرف ما إذا كانت قد وقعت لنا في طفولتنا، أم أنها رويت لنا فحسب، أو شاهدناها في صور فوتوغرافية. وكل ذكرياتنا موقوتة على حد سواء، ولم تنشأ عن ماض مستقر، وغائم أحياناً، بل عن حاجات الحاضر الملحة. نحن نتذكر ما نتذكره لأنه يساعدنا على معرفة من نكون اليوم، وما قد نصبح غداً، وهذا ليس كل شيء. فكل عملية تذكر، وبشكل خاص كل عملية إعادة رواية ما حدث يغير الذاكرة نفسها. وقد ننتهي بذلك إلى نسخة مضببة عن نسخة من نسخة أهال عليها الحاضر المتحكم خطاً حاداً جديداً، يتحدانا الآن في أن نخالفه. يذكر ذلك كتاب "علم الذاكرة الجديد" لعالم النفس البريطاني تشارلز فيرنهو. يعرض الكتاب أحدث الاكتشافات في علم الأعصاب، والتي تبين أن عقولنا لا تعمل بشكل معقول، فعمل مركز الشعور والذاكرة والجهاز العصبي الذاتي، والغدة اللوزية في الدماغ المتخصصة بالعواطف، والقشرة الجبهوية للدماغ تتوهج وتنطفئ كأضوية سحرية. ذكرياتنا مستقلة عن إراداتنا، إنها ليست سهلة على النسيان. * مستشار في العلوم والتكنولوجيا