ما يحدث في سوريا خلال هذه الآونة قد يبين بمعنى ما أن طريق "الربيع العربي" ربما أصبح باهظ التكاليف، إن لم يكن طريقه مسدوداً... لكن لماذا تعثر الطريق وبدا أخيراً غير سالك؟ لدى أحد الشعراء البريطانيين الرومانتيكيين مقولة ذات مغزى: ذهبت إلى فرنسا لأفهم بريطانيا! والمعنى المقصود هو أن المراقب والمحلل للأحداث يحتاج في وقت ما للخروج من دوامة هذه الأحداث لينظر إليها من أعلى أو من خارج تشابكات الغابة، تماماً كما تكون في الطائرة وتنظر إلى إحدى المدن الكبيرة لتتعرف على معالمها الأساسية التي لا تراها بسهولة وأنت تجوب شوارعها المزدحمة. تعطي فترة الصيف مثل هذه الفرصة للمحلل العربي الذي يستطيع خلال ترحاله أن يتحرر بعض الشيء من "الغرق" في تفاصيل الحياة اليومية، ويركز على استخلاص الأنماط أو السمات الأساسية للأحداث الجارية في العالم العربي. فما هي هذه السمات الأساسية؟ وهل يختلف الخارج عن الداخل في رؤيته لما يسمى "الربيع العربي"؟ الإجابة المختصرة على هذا التساؤل هي بالنفي، إذ قد تختلف درجة الحماس والانفعال، كما قد تختلف قوة التحليل أو الإلمام بتفاصيل الموضوع، لكن التساؤل المشترك، وإن تعدد صيغه، كان الآتي: لماذا يتعثر "الربيع العربي"؟ لماذا يطول ليله ومتى يظهر فجره؟ لماذا تزداد أمطاره وتتحول إلى عواصف رعدية عاتية؟ وهل من الممكن أن تنقلب هذه الأمطار التي تحتاجها الطبيعة لكي تنمو الأزهار، إلى تسونامي مدمر للمجتمع ومقوض لدعائمه؟ في مواجهة إلحاح "الخارج" على إجابات قصيرة ومحددة، أصررت على التفاؤل فيما يتعلق بالمدى البعيد، وذلك على الرغم من سيطرة بعض المشاكل والانقسامات، بل بعض الفوضى أيضاً في المدى القصير والمتوسط. فنمط التحول بعد طول كبت وانتظار لا يمكن أن يكون إلا عنيفاً في كثير من الأحيان، حيث يمر المجتمع قبل الوصول إلى حالة الاستقرار بفترة يتعرف فيها على تجارب وحلول مختلفة، وقد يمر بفترة ضياع يتحسس خلالها السبل المتعددة في البحث عن هذه الحلول. هذه هي تجربة فترات التحول في البلدان المتعددة من شرق أوروبا بدءاً من الاتحاد السوفييتي السابق إلى جنوبها، أي في إسبانيا والبرتغال بعد انتهاء الحكم الفاشي الذي قام على أيدي الجنرال فرانكو (إسبانيا) والديكتاتور لازار (البرتغال). فترة التحول هذه إذن، هي فترة مخاض أساسية، تُتوج بمولود جديد، نتمنى أن يكون في صحة جيدة، لكن هذا المولود قد يولد أيضاً بعاهات يجب معالجتها قبل فوات الأوان، أو حتى قد تحدث عملية إجهاض، حيث لا تؤدي فترة المخاض الثوري إلى التحول الديمقراطي المنشود. في الإجابات التي قدمتها في الخارج، أكدت على عاملين أساسيين يلقيان الضوء على صعوبة فترة المخاض هذه، كما اقترحت مخرجاً من أزمة التعسر والتعثر. أما أهم تحدِّيين خلال مرحلة المخاض فهما: أولاً: تنامي التطلعات والتوقعات الشعبية في مواجهة تدني الموارد للاستجابة إلى ما هو مأمول من الثورة، ففي تونس مثلاً، وكذلك الحال في كل من مصر وسوريا، استمر الكبت لعقود، وعندما انهار النظام أخيراً، أصبح هناك انفجار بعد طول الكبت. كل يوم هناك مطالب متزايدة: من المعلمين، الأطباء، المضيفين الجويين، ناهيك عن الطبقات المحرومة من العمال والفلاحين. هذا في ظل عدم الخبرة لدى النخبة الحاكمة الجديدة، التي لا تعرف كيف تواجه هذه التحديات، وبالتالي نجد أنها تتردد في كثير من قراراتها، بل تتخبط في توجهاتها، مما يؤدي إلى عدم احترامها أو نقص الثقة بها، وهكذا يحدث شعور بفراغ السلطة في وقت يكون فيه المجتمع بأشد الحاجة إلى الحسم، فيتولد إحساس بغياب الدولة وانتهاء هيبتها. ثانياً: الاستقطاب المتزايد بين القوى السياسية، ليس فقط بسبب الأجندات الخاصة بكل واحدة من هذه القوى، ولكن أساساً بسبب عدم خبرتها هي أيضاً في التعامل السياسي المعلن والمفتوح، فطول فترة الحكم القمعي البوليسي، جعل الكثيرين غير قادرين على التعامل بشفافية وصراحة، بل نراه يعلن عكس ما يخفي. ولا يقتصر هذا السلوك على بعض قوى الإسلام السياسي فقط، بل إن الجميع في حالة صراع مستمر وحتى الضرب تحت الحزام، وهكذا يزداد جو عدم الثقة، ليس فقط بين القوى السياسية، ولكن على المستوى الشعبي أيضاً. ما المخرج إذن من حالة الارتباك والتعسر هذه؟ تبين تجارب الشعوب المختلفة التي مرت بمثل هذا المخاض السياسي والتاريخي، أنه بالإضافة إلى استتباب الأمن واستقرار الاقتصاد، أو بالأحرى وضع القدم على بداية الطريق إليهما، أنه لا غنى عن ما يسمى في أميركا اللاتينية "التحالفات الشعبية"، أي تكوين ائتلافات بين المنظمات المختلفة لتقليل حدة الاستقطاب السياسي ومحاولة التفاوض الحدي حول الخلافات السياسية من أجل حلها، أو على الأقل أجل احتوائها وضبطها، بمعنى آخر، السيطرة على حالة الضياع أو الفوضى السياسية التي تشعر بها أطياف المجتمع المختلفة. فمثل ذلك الخيار يوفر بوصلة توجه المجتمع وتدفعه للعمل والبناء بدلاً من الاستمرار في حالة التظاهر والاعتصامات اللامتناهية، أي سيطرة الشارع الضائع بدلاً من المصنع المنتج.