قبل سنوات قريبة كان حامل الشهادة الجامعية ينظر له بشيء من الإعجاب والتقدير في المجتمع، إنه يحمل شهادة عليا، فيمنح مباشرة صفة مثقف ويحظى باحترام كبير وتفتح له أبواب العمل والترقي. في تلك المرحلة كان الجامعي ملء السمع والبصر، والسبب هو قلة عدد خريجي الثانوية الذين اختاروا الذهاب إلى الجامعة، كانت مغريات الوظائف من حيث تعددها ومزاياها متاحة أمام الجميع، ما يجعل خيار إكمال الدراسة في آخر سلم الأولويات عند الكثيرين، خاصة الطلاب منهم. هذا إضافة إلى قلة وجود الجامعات، إذ لم نكن نملك حتى منتصف الثمانينيات تقريباً سوى جامعة الإمارات. تكاثرت الجامعات فجأة، وزادت كثافة الطالبات والطلاب، وبدأ سوق العمل يفرض شروطه ومتطلباته، وأخذ ظاهرياً يتشبع منهم، وعادت الطالبة بعد الحصول على الشهادة الجامعية والدورات التخصصية، تجلس سنوات طويلة في بيتها تنتظر هاتفاً يطلبها للعمل. تجربة أن تجد خريجة متفوقة تجلس من غير عمل، أو خريجاً يبحث عن وظيفة ولا يجدها في تخصصه، جعلت فكرة استكمال الدراسات العليا مشروعاً لا جدوى منه في الحاضر عند الكثير منهم، أما تجارب بعض الذين تحمسوا وأكملوا دراستهم وحصلوا على شهادات الماجستير والدكتوراه فتبدو محبطة وتحتاج إلى حل. الأسبوع الماضي عندما تناولت واقع الدراسات العليا عندنا وطموح أبناء الإمارات لفرص تشجيعية تحفزهم على الالتحاق بهذا المستوى المتقدم من التعليم، فوجئت بكثرة عدد الرسائل والاتصالات من قراء جميعهم يشغلهم هذا الموضوع. لكن للأسف الشديد معظم تلك الردود كان فيها الكثير من العتب واليأس، ولا تبشر بأن من حصل على هذا المستوى التعليمي قد حقق طموحه، أو أنه سعيد بهذا النجاح وهذه المرتبة التي نالها بعد جهد وتعب. فهناك مثلاً اتصال من "سالم" الذي كان يعمل في أبوظبي، وحصل على منحة لإكمال دراسته الجامعية في العين، وكان متردداً في البداية، لكنه عزم أمره والتحق بها. نجح وتفوق وأحب الدراسة. واليوم يتمنى سالم أن يجد فرصة أخرى ليكمل دراساته العليا، فهو على حد قوله لو استراح لن يتشجع من جديد لإكمال هذا المشروع الذي أصبح حلماً له. كذلك رسالة إلكترونية مرسلة من طالبات جامعيات عبّرن عن فرحتهن بمكرمة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة بتقديم منح للمواطنين لاستكمال الدراسات العليا في جامعتي الشارقة والأميركية. هؤلاء كما كتبن: عاد لهن الحماس والحلم بالتفوق من جديد، أسرعن للجامعة وحصلن على القبول، لكن عندما راجعن إحدى إدارات الجامعة، أخبرتهن أن الباب أغلق وتم قبول الدفعة، ولا مكان لهن! أين يمكننا أن نقدم أوراقنا؟ وهل هناك من فرصة في قبول أسماء جديدة؟ لا جواب لذلك عند أحد هناك، كما قلن في رسالتهن. 194 منحة للدراسات العليا، وهو الرقم الذي أعلن عن قبوله في الصحف، وقد يكون الرقم الأكبر في تاريخ التعليم العالي عندنا، والذي يتم تسجيله خلال عام بل في أعوام. ليت ذلك الجهاز الإداري تعامل بطريقة مختلفة مع تلك الطالبات، وأعطاهن الأمل بدل الإحباط، وأرشدهن إلى الطريقة الأفضل لتحقيق طموحهن... لكنها واحدة من إشكاليات الجهاز التنفيذي الذي تعانيه بعض الجامعات عموماً، فلم يحاول بعض مسؤوليها مثلاً استثمار مبادرة كريمة وكبيرة قدّمها صاحب السمو حاكم الشارقة لدعم العلماء والاهتمام بالمواطنين. لكن طموح "سالم" وأمل طالبات الجامعة المنتظر أفضل من واقع صاحب آخر هو "حمد" الذي حادثني في نهار اليوم نفسه يشكو إحباطه، فقد تغرّب واختار أميركا ليكمل دراسته الجامعية، وبعد أن نجح بتفوق فيها، قرر أن يكمل مشروعه التعليمي وحصل على شهادتي ماجستير، وعاد للوطن ليتعثر في البحث عن وظيفة، وعندما وجد شاغراً يناسب تخصصه، اعتذروا عن قبوله. لأن شرط الوظيفة أن يكون لديه خبرة ثمان سنوات، وهو لا يملك سوى سبع سنوات ونصف السنة. قال لهم: يوجد معي شهادتا ماجستير، ألا تشفعان لي؟ ردوا عليه: للأسف، لا! "حمد" نادم على الماجستير وسنوات الغربة. يقول: ماذا لو كنت مثل زملاء الدراسة واشتغلت! إنهم اليوم أفضل مني، فهم في وظائف عليا، أحتاج سنوات طويلة حتى أستطيع اللحاق بهم، هذا إذا بقوا في مراكزهم هذه. أحزان درجة "الدكتوراه" تلاحق كذلك العديد من أساتذة الجامعة، أحدهم قال: كيف لنا أن نتباهى بها، وأحدث خريج من عندنا يلتحق بوظيفة ما ويحصل على راتب ومزايا لا نحلم بها نحن؟ كيف نشعر بالرضا ونحن لا نملك غير حرف"د"؛ لا ثروة تسندنا ولا صنعة غيرها نتكسب منها، وعندنا أسر ومتطلبات لا تنتهي؟ وأستاذة جامعية ردت: كيف تطالبونا بالبحث العلمي والكتابة وخدمة المجتمع، ونحن نعاني ضغوطاً لا تنتهي من كثرة المساقات التدريسية، والمتطلبات الأكاديمية والروتينية الأخرى التي تلزمنا بها إدارة الجامعة؟ شجون كثيرة تحاصر هؤلاء النخبة الذين فضلوا خيار الدراسات العليا وعالم البحث العلمي، كيف يمكن أن نوفر لهم سبل حياة أفضل؟ وأن نهتم بدعمهم وتشجيعهم، ونستثمر علمهم وخبراتهم الأكاديمية في خدمة مجتمعهم؟ ومن الذي يمكن أن يبادر لتبني قضاياهم: هل هي وزارة التعليم العالي؟ هل هي أجهزة الخدمة المدنية الحكومية أو التابعة للحكومات المحلية؟ أم إدارات الجامعات التي يعمل بها هؤلاء؟ ثم أوليس ذلك مسؤولية مشتركة؟ وهل على الأستاذ الجامعي وطالب الدراسات العليا الانتظار طويلاً حتى تجد هذه المؤسسات حلاً لقضايا وهموم تبدو صغيرة عند مقارنتها بالطموحات والآمال المعقودة على أدوار الأستاذ الجامعي في خدمة وطنه بهذه الخبرات والمهارات التعليمية التي يحملها.