السينما ليست فناً وحسب، بل صناعة ربحية تحمل أوجهاً عدة من الترفيه والتسلية والتشويق والتثقيف وتسليط صور وأنماط ثقافية معينة، وفيما هي كذلك، تتربع السينما الأميركية على قاعدة انتشار واسعة وبانفراد عالمي كبير جداً بسبب اللغة الإنجليزية والتقنية وضخامة الإنتاج والتسويق السينمائي. كما أنها تعد "السينما الأميركية" أحد أذرع القوة الناعمة للولايات المتحدة الأميركية، والتي تؤثر على سلوك وأفكار مجتمعات كثيرة في العالم، عبر محتوى الفيلم من قصة وملبس وثقافة معينة، والذي يكون له تأثير بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ومن أمثلة التأثير انتشار الملابس والمفردات والأطعمة والثقافة المصاحبة للفيلم، حتى بلغ التأثير إلى ظهور سلوكيات للعنف والجريمة، تعود أسبابها لنوعية ومضمون بعض الأفلام. إضافة إلى ذلك، تبلغ السينما أوجه انتشار كبيرة بسبب تقنية الإنترنت والتي أصبحت كدور العرض، تنتشر فيها الأفلام حول العالم، والتي أصبحت في بعض الحالات تنتهك حقوق الإنتاج والعرض، مما جعلها مشاعة للبشر. أتت السينما الأميركية في ذكرى أحداث الحادي عشر من سبتمبر عبر الفيلم المسيء للرسول سيد البشر صلى الله عليه وسلم – وهو فيلم من عمل أقباط مصريين في الولايات المتحدة مع مخرج أميركي – يهودي وشخصيات أخرى، لتكشف دوراً غير مرغوب فيه للسينما، لأن هذا الدور حمل إساءة لدين أممي وإنساني، وليس غريباً أن يخلق زعزعة وعنفاً في مناطق عدة من العالم. حقيقةً، السينما وعبر هذا الفيلم انتقلت إلى فاعل دولي من غير الدول، وهذا صحيح عبر النظر إلى الأحداث التي تسبب بها في عمليات الإغتيال كالتي طالت السفير الأميركي في ليبيا، والتطاول على المقار الدبلوماسية المتمثلة في حرم السفارة الأميركية وممثليها في العديد من الدول العربية والإسلامية، وتولد عن هذا الفيلم حالات من القلق في بعض البلدان العربية والإسلامية والغربية على حد سواء في إمكانية وجود حالات من زعزعة الأمن الداخلي، كما أن بعض أطياف "اليمين المتطرف" في الغرب يريد اللعب بالنار مع عرض الفيلم كالحالة في ألمانيا. وبلغ التخوف من رد الفعل لهذا العمل السينمائي، والذي لا يعد إلا عمل لفتنة وصدامات أن إسرائيل تريد إخراج نفسها من كون مخرج الفيلم يحمل الجنسية الأميركية والإسرائيلية أو المساهمة في التمويل، والذي يؤثر يقيناً على الأمن الخاص لليهود في بلدان غير إسرائيل. حقاً، القدرة على إحداث فعل جماعي منظم له تأثير على الدول وعلاقاتها يعتبر في دائرة الفاعلين الدوليين من غير الدول، كالميليشيات والشركات المتعددة الجنسيات. وعندما نشير إلى بروز فاعلين من غير الدول، فإن ذلك يؤكد أن العديد من الفاعلين عابري الأوطان في العلاقات الدولية سواء تعلق الأمر بالجماعات المتطرفة أو الشركات الاقتصادية أو الأفلام نادراً ما يكونون تحت سيطرة الدولة القومية، وهذا لا يعني تجاهل الدعم الذي تتلقاه الجماعات المتطرفة أو الشركات من بعض الدول. كما أن هذه الجماعات والشركات والأفلام قد لا تتصرف باستقلالية عن الحكومة المضيِّفة فقط، بل إنها تعمل ضد إرادة هذه الحكومة في بعض الحالات، وهنا تستطيع الحكومات ردع أفعال تلك الجماعات والشركات عندما ترى في دورها تهديداً للأمن والاستقرار الدولي بطرق عدة ومختلفة لكونها الفاعل الأساسي في العلاقات الدولية. وعند التساؤل: هل الفيلم عمل منظم يدرك خطر ما قام به، فإننا نكتشف أن الفيلم يشكل عملاً منظماً يدرك خطورة ما يقوم به، حيث إن هذا الفيلم قد تم إنجازه منذ عام تقريباً في ولاية كاليفورنيا، وتم نشره مدبلجاً تزامناً مع ذكرى أحداث الحادي عشر من سبتمبر لهذا العام، والملاحظ أن نشره مجزءاً يدل على معرفة كاملة بخطورة هذا العمل العدواني، والذي أثر وسوف يؤثر على الأمن والاستقرار القطري لمصر بشكل خاص وعلى الانتخابات الأميركية وعلى استقرار منطقة الشرق الأوسط بشكل عام. فمن هويات الأشخاص الذين صنعوا الفيلم، تبدو مصر أولى الأطراف المعنية لكونها موطن الأشخاص، كما أنها معنية بما يدور داخلياً من صراع مع "الإخوان المسلمين"، الذين قد وصلوا لهرم السلطة، ومن هنا ربما تصاغ خيوط لإيقاع صدام ما بين مسلمي ومسيحي مصر، والذي ربما يحدث، ولكن يصعب حدوثهُ بصورة كبيرة من حيث أن ينتقل إلى الأقطار العربية الأخرى التي تضم المسيحيين وغيرهم بين مواطنيها. حقيقةً خوف الأقليات والإثنيات العربية كالمسيحيين في بعض الأقطار العربية راجع إلى عدم تحقيق الدولة القومية، التي لم تكن قوية وصلبة بما فيه الكفاية، بل عرضة للمتغيرات والتحديات الخارجية، حيث برزت القومية العربية كوجه يحاول مواجهة عمليات التتريك من دولة الخلافة العثمانية. بل أجمل اندماج للمسلمين العرب والمسيحيين وغيرهم كان في إطار النعرة القومية العربية بإطارها الماركسي، والتي في عباءتها تتستر الإنتماءات للأديان إلى حد كبير ولكن لا تختفي، كما أن القضية الفلسطينية لعبت دوراً في الشعور العربي المشترك. وإذ أن انهيار الماركسية وبروز البعد الديني وعدم تحقيق الدولة الدستورية المدنية يعد خطراً كبيراً على استقرار بعض الأقطار العربية، فإن حدوث صدام على أساس اختلاف إثني أو عرقي في أي قطر في العالم، هو إعلان فشل في تحقيق الدولة القومية. وتظن بعض الإثنيات خطأً، بأن الدول العربية تستطيع خلق تشريعات وقوانين ودساتير علمانية خالية من الدين، بل يُعد الدين الإسلامي المصدر الأول والمهم في وضع القوانين واللوائح الدستورية، ولم يأتِ دستور عربي من دون ذكر الدين الإسلامي مصدراً للتشريع، إلا دستور أو اللوائح القانونية للاتحاد العربي الذي جمع مصر وسوريا. ومن الأثر الإقليمي ربما يصل البُعد إلى متطرفين يأخذون ما حدث عبر الفيلم ذريعة ضد المسيحيين في بعض الأقطار العربية والإسلامية، كيف لا وهي بين السني والشيعي بالعراق موجودة الآن حياة التطرف والقتل. على الولايات المتحدة الأميركية، إبعاد نشر هذا الفيلم لأن فيه مسار العلاقة بين أميركا والعالم الإسلامي يأتي على المحك، ولعله أراد التأثير بصورة غير مباشرة في هذا المسار مستغلاً فترة انتخابات الرئاسة الأميركية ، حيث يصور للشعب الأميركي أن حكومته الحالية متخاذلة نسبياً مع المسلمين "الإرهابيين" كما أن للسينما والإعلام الأميركي دوراً كبيراً في التأثير على العقلية الأميركية، كما أن إساءة هذا الفيلم إلى درجة تثير حفيظة وغضب المسلمين مما يجعل بعضهم يتورط في أعمال عنف، جعلت هذا الفيلم يصل إلى هدفه المقيت، وكان ذلك. كل هذه الأدلة تشير إلى أن الفيلم أراد أن يلعب دوراً مخرباً في العلاقات الدولية. مازالت آثار الفيلم مستمرة في اختبار المواطنة المصرية كأساس للانتماء، وفي تأثيرها على الانتخابات الأميركية وعلى تعاطي واشنطن مع ما تعرضت له من هجمات على سفاراتها، وإعادة فكرة محاربة فلول "القاعدة" والتدخل في شؤون بعض الدول، رغم هذا كله، واشنطن والدول الغربية مُطالبة بوضع تشريعات وقوانين صارمة تُحرم على صناعة الأفلام السينمائية، وعلى الصحف والرأي العام المساس بأي رمز ديني، وعليه إما أن تكون قوانين صادرة من الدول المعنية أفلامها أو صحفها أو حتى رأيها العام بالإساءات الموجهة لرموز دينية على غرار تلك القوانين التي حرمت أي عمل ضد السامية، والمعني بذلك اليهود تحديداً، وإنْ لم تتجاوب تلك الدول بحجة حرية الرأي، يجب التوجه إلى الأمم المتحدة من خلال الدول الإسلامية قاطبة لإصدار قانون دولي أُممي، بحيث يتم منع تلك الأفلام أو الصحف من أن يكون لها أثر دولي في زعزعة الأمن والاستقرار وخلق الكراهية بين المجتمعات. تلك التشريعات يجب أن تمنع التطاول على الأديان والمكونات الأساسية لهويات المجتمعات، وهي وإن تفعل ذلك تبطل ولادة دور لاعب دولي من غير الدول.