أين هي أمة "ولا تزر وازرة وزر أخرى"؟ ومن أين جاء كل هذا التطرف في الرد على الفيلم التافه "براءة المسلمين" والتي سوف لن تثمر شيئاً في الدفاع عن أي حق؟ وما هي مسؤولية اللبنانيين مُلاك مطاعم كنتاكي وماكدونالد في طرابس، عن ذلك الفيلم؟ وما ذنبهم حتى تثور عليهم "الجماهير" وتدمر ممتلكاتهم؟ وما مسؤولية الكولومبيين أفراد القوة الدولية المرابطة في صحراء سيناء عن نفس الفيلم حتى يتعرضوا لهجوم جماعي من قبل السكان؟ وما علاقة سفارات ألمانيا وإيطاليا في الخرطوم بالفيلم ذاته حتى تستهدفها نفس تلك "الجماهير" الغاضبة؟ وما ذنب أصحاب السيارات الواقفة على الشوارع المؤدية للسفارة الأميركية في تونس حتى يهجم عليها الناس تحطيماً وتكسيراً؟ ومن المسؤول عن دم الذين قتلوا وجرحوا في المظاهرات والغارات الهمجية على السفارات وعلى كل ما هو غربي؟ هذا قبل أن نصل للسؤال عن ذنب ومسؤولية السفير الأميركي ومرافقيه الذين قتلوا في بنغازي، وهم لم يسمعوا عن الفيلم ولا علاقة لهم به، وكانوا قد وقفوا مع الشعب الليبي وساندوه ضد الطاغية الذي تحكم فيه أربعة عقود وأكثر. لا يكمن الجانب الأخطر لما نراه هذه الأيام في الفيلم السخيف ذاته والإساءات التي تضمّنها. فالفيلم وكما تعرض بعض المقتطفات منه على شبكة الإنترنت يتصف بسخافة بالغة لا يستحق معها أن يُضم إلى صنف الإيذاءات الثقافية المتبادلة بين المجموعات الدينية المختلفة. ورداءة الفيلم من ناحية المضمون والدراما والفن، اضطرت دار السينما الوحيدة التي عرضته خلال الصيف لسحبه بعد عرضه مرة أو مرتين. نحن هنا لسنا أمام أطروحة ثقافية مركبة تقدم الإساءة بشكل ذكي ومعقد وتستدعي الرد وتحفز العقل والذهن على التفكير. نحن أمام شتيمة ساقطة الرد عليها لا يكمن سوى في الإهمال واستلهام ما يؤشر عليه قرآنياً: "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً"، بكل ما يعكسه هذا الرد من ثقة بالنفس وترفع عن الجهالات. الجانب الأهم والأكثر رعباً في ما نراه الآن في شوارع المدن العربية والإسلامية هو اكتساح جائحة التطرف بمجتمعاتنا وثقافتنا والانقراض المتسارع لكل القيم النبيلة والسلوك الحضاري. إنه نتاج ثقافة التعصب الديني التي اشتغلت على البنية التحتية للناس والأفراد خلال أكثر من نصف قرن فأنتجت ما نراه. السمة الغالبة لما نراه الآن هي غياب العقلانية والتفكير والثقة بالنفس مقابل انعدام الثقة بالنفس، وقلب الأولويات. لنبدأ بغياب العقلانية وانعدام الثقة في النفس وموضعة الأمور في نصابها. إذا كان النص القرآني يقول بوضوح: "وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين"، فمعنى ذلك أن غالبية البشر ليسوا مؤمنين فضلاً عن أن يكونوا مسلمين، وبالتالي فإن نظرتهم للدين وللأنبياء لن تنطلق من أية قدسية أو احترام. وعليه لا يمكن أن نفترض فيهم أو أن نفرض عليهم ذلك الاحترام بالقوة. الوسيلة الوحيدة كانت ولا تزال الحوار والإقناع والجدل بالتي هي أحسن، وهي شمائل الثقة بالنفس. أما أن تثور غرائز مليونية لمجرد شتيمة تافهة، فذلك يدلل على هشاشة في النفس وعدم ثقة حتى بالقيم التي يتم الدفاع عنها، وكأنها سوف تسقط من مجرد شتيمة لأرعن هنا أو ناقد هناك. سوف يقول قائل إن الغرب منافق ويسمح بشتيمة المسلمين ولا يسمح بشتيمة اليهود، وهذا صحيح، لكنه ليس موضوع الحديث هنا، وليس ثمة أي دفاع عن الغرب وسياساته في هذه السطور، لكنها تركز علينا نحن، أي على الذات، وما يحصل في داخلها من كوارث تأكل الأخضر واليابس في مجتمعاتنا. التطرف الذي نراه اليوم فاقدا لأي إحساس بالأولويات. كيف، مثلا، تخرج كل هذه العشرات من الألوف للتظاهر ويتلاعب بها مخرج سافل لفيلم رديء، ولا تخرج مئات من هؤلاء لنصرة إخوانهم الذين يموتون في سوريا بالمئات كل يوم؟ وكيف لا يخرج عشرهم لنصرة القدس التي تتهود كل يوم؟ ولا لغزة التي تخنق تحت الحصار؟ الغرائزية الجماعية والانجرار نحو ثقافة القطيع الهائج، تنحي العقل جانباً وتسلم القيادة للغباء وتسير وراءه بثبات! الفيلم كان يمكن أن يمر ولا يسمع به أحد وينتهي إلى سلال المهملات الخاصة بالأفلام الرديئة، وبالتالي تُحبط الأهداف التي انتج من أجلها، وهي تحقيق أكبر قدر ممكن من الإساءة والتعريض بالإسلام والمسلمين. بيد أن الرد العنيف أنقذ الفيلم من ذلك المصير المحتوم ومنحته شريان الحياة إلى الأبد، ودفعت مئات الملايين إلى مشاهدته. تُرى كيف انتصر أولئك للرسول وقد دفعوا الملايين نحو رؤية الفيلم المسيء؟ المشكلة هنا هي أن خطأ الرد يتكرر كل سنة، ودون أن تتم الاستفادة منه. تثوير الغرائزية وإطلاقها إلى أبعد مدى بدأ مع فتوى نقلت كاتباً من الدرجة الرابعة إلى مصاف الكتاب الأكثر شهرة وكتابه المتواضع إلى مصاف الكتب الأكثر مبيعاً في العالم. الكتاب الذي كان ربما سيقرأه عدة مئات من الناس، قرأه مئات الملايين. ذات الدرس يتكرر تباعاً ولا تزال أزمة رسام الكاريكاتير الدنماركي قبل عدة سنوات طازجة في أذهاننا. رسام واحد وبعدة رسومات عنصرية وتافهة استطاع أن يحرك ملايين المسلمين ويستفزهم ويتسبب في مقتل الكثيرين وتدمير ممتلكات لا تعد ولا تحصى في مدن العالم الإسلامي. فذلك حول الرسام المغمور إلى بطل كوني، وانتشرت رسوماته العنصرية في طول العالم وعرضه. تطول الأمثلة والنماذج، وكلها محزنة لكنها كلها تؤشر إلى شيء مقلق وخطير يضرب في بنية مجتمعاتنا وهو التطرف المتسارع. مجتمعاتنا تسير في منحنى متصاعد من التطرف الديني تسرع فيه نتائج انتخابات ما بعد "الربيع العربي". عقلاء هذه الأوطان وقادة الرأي فيها يجب أن يضعوا "التطرف" نصب أعينهم كأهم عدو يحيق بهذه المجتمعات ومستقبلها. الجماعات التي تنطلق في الشوارع تدمر وتدك ما تلاقيه في وجهها، مستعدة لأن تدمر أي شيء، وربما قتل أي أحد. البنية الفكرية المتعصبة لهذه الجماعات قائمة على إقصاء الآخر وعدم الاعتراف به واستسهال التخلص منه، وهذا كله وسط مجتمعات متنوعة دينياً وإثنياً وسلوكياً. الكارثة في التطرف والغرائزية أنهما يحطمان الذات خلال السير نحو الآخر لتحطيمه، وهو بالطبع يبقى سليماً معافى لأن الحطام الناتج عن تدمير الذات لا يترك أي مجال للسير نحو أي اتجاه.