في حياة الرسول عليه الصلاة السلام، قصص ووقائع نال فيها خصومه مرة من شخصه حساً ومعنى، ومرات أخرى من عرضه، وفي حالات لاتحصى طعنوا وشككوا بصدق رسالته. وحينما فتح النبي مكة عام 8 للهجرة، كان فيهم فريق ممن كانوا يكذبونه ويكفِّرونه، ويشككون في صدقه، ولكنه عفى عنهم ماعدا جاريتين وسيدهما لأنهما كانتا تغنيان أغاني بذيئة تنال حريمه ونزاهته، كما استثنى ابن أبي السرح أخ عثمان بن عفان لأمه، إلا إنه نجا بحيلة. منذ أعلن محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم رسالته في مكة، واجه فصولاً من الأذى في نفسه وفي أهله من شخصيات بارزة من قريش شباباً وكهولاً وشيوخاً ونساء. قصة النبي في مكة تشابه إلى حد كبير ماجرى للمسيح عيسى بن مريم، فلا أحد من الأنبياء كانت قصته شبيهة حد المطابقة بقصة يسوع أكثر مما لقيه محمد في مكة، ولا يمكن لأي منا أن يقرأ قصته المحزنة المؤلمة، حينما عرض نفسه على أهل الطائف وابتهاله الأسيف بعد ذلك، إلا ويجد في نفسه مرارة، فقد رموه بالحجارة، وأطلقوا عليه الصبيان والجواري والمعتوهين يصيحون خلفه ويصرخون في عقبيه، وأي سيد شريف معتد بنفسه، يعرض مهجته للهوان، لولا السر الكبير الذي يملأ جوانحه! ولو أن الله استوفى روح النبي الكريم في الثلاث عشرة سنة المكية لكان مسيحاً آخر، ولكنه شهد نجاح رسالته، ولم يلفظ أنفاسه حتى وجد كلُّ أولئك الذين اساءوا إليه الأمن والسلام والعفو في حماه. حينما زعم بعض من ارتد عن الإسلام في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه شارك في تأليف القرآن، أهدر المسلمون دمه، ولكن النبي لم يوص بأن ينتقم ممن كذب عليه بالنيل من إخوتهم أو اغتيال بني عمهم، أو أوعز إلى بعض أتباعه أن يحرقوا منازلهم ولا أن يستبيحوا دماء أهاليهم ولا من دخل المسيؤون في جواره، ولم يرسل النبي فُتاك الصحابة لكي يتخطفوا أقارب من شتمه، وأهاليهم حينما يفدون إلى المدينة في تجارة أو زيارة. وفي قصة الأفك عاقب الرسول أحبابه الذين خاضوا في الأمر شهوة ونميمة، ولكنه تغاضى عن ابن سلول لأنه لم يكن مؤمناً، وماعسى أن ينفع ذلك؟! ذلك أنه منذ أن نطق لسانه بـ(اقرأ ) كان قد باع نفسه لله عز وجل، وعلم أنه لم يعد محمد بن عبدالله الهاشمي السيد الذي عليه أن يغضب لنفسه ويثأر لها، ويذود عن ناموسها، ويحاكي سادات العرب الذين إذا غضبوا لذواتهم غضب من أجلهم مئة ألف فارس، بل علم حق اليقين أنه أصبح رحمة رب العالمين وحناناً للأشقياء والتائهين، ومن حينها غدا كله بنفسه وماله وكيانه وعرضه ملكاً لله، فلا ينتظرن الجزاء ولا العوض إلا من مولاه، ولهذا حينما أخذ مدة من الزمن يقنت على نفر من قريش بعد هزيمة أحد عاتبه ربه: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوبَ عليهم أو يعذبَهم فإنهم ظالمون). فعلى المسلمين سياسييهم ومفكريهم أن يقتدوا بنبيهم، وألا يسمحوا لرعاعهم أن يختطفوا الإسلام.