هل يعقل أن فيلم فيديو لا تتجاوز مدته 13 دقيقة، وكان قد تم تجاهله قبل عام عند عرضه، يفجر احتجاجات ومظاهرات يسقط خلالها قتلى وجرحى في أكثر من عاصمة عربية وإسلامية؟! وهل يعقل أن يعيد مقطع فيديو على اليوتيوب قضايا الأمن والإرهاب والسياسة الخارجية لمعركة الرئاسة الأميركية؟ وهل يمكن أن يغير ذلك الفيديو نظرة أميركا لـ"الربيع العربي"؟ إن شعوب مصر وتونس ومصر وليبيا، كما قالت وزيرة الخارجية الأميركية، لم تستبدل طغيان ديكتاتور بطغيان الغوغاء! لكن هل الأنظمة التي وصلت للحكم في تلك الدول، والتي تتعامل معها واشنطن، أصبحت أنظمة غوغائية؟ وهل جاء الفيلم ليغطي على التلاسن والتباين بين واشنطن وتل أبيب بسبب الخطوط الحمراء التي ترفض واشنطن وضعها على برنامج إيران النووي، لدرجة أن أوباما يرفض لقاء نتيناهو لانشغاله؟ وهل أيضاً جاء الفيلم للتغطية على مجازر وحمامات الدم في سوريا؟ ولحرمان زيارة البابا التاريخية للبنان من التغطية التي تستحقها؟ نعم، ذلك بالضبط ما حدث في أسبوع الذكرى الحادية عشرة لاعتداءات 11 سبتمبر. في الحملة الانتخابية الأميركية هذا العام غاب موضوعا الأمن والسياسة الخارجية، بعد أن فرضا نفسيهما بقوة في حملتي انتخابات الرئاسة لعامي 2004 و2008. لا شك أن نجاح أوباما في اغتيال بن لادن، سجل ضربة قوية لتنظيم "القاعدة" ومنح أوباما الكثير من التقدير لدى الشعب الأميركي. كما أن تعقب الاستخبارات الأميركية وقيامها بتصفية قيادات "القاعدة" في أفغانستان وباكستان واليمن والصومال، مثل العولقي وأبي يحيى الليبي... أضاف إلى رصيد أوباما الانتخابي. فجأة، وخلال أسبوع مليء بالأحداث والتطورات السريعة، تغير كل شيء، وتم خلط الأوراق قبل أقل من شهرين من الانتخابات الرئاسية الأميركية. عاد الهاجس الأمني من عمليات إرهابية ومن عودة "القاعدة"، مع عرض الفيلم الأميركي "براءة المسلمين"، وهو فيلم مسيء ومبتذل ويتطاول على الرسول صلى الله عليه وسلم ويزدري الإسلام. لذلك وصفته وزيرة الخارجية الأميركية بأنه "مثير للاشمئزاز"، وطلب البيت الأبيض من موقع يوتيوب حجبه أو حذفه... وذلك في استحضار لمسلسل الإساءات مثل الرسوم المسيئة، وحرق القس الأميركي تيري جونز للمصحف الشريف. لقد تفجرت مظاهرات صاخبة واشتباكات قرب السفارات الأميركية في القاهرة وليبيا وتونس واليمن، وأنزل العلم الأميركي وأحرق ورفعت الرايات السوداء، وقتل بعض المتظاهرين في تونس ولييبا ولبنان، وجُرح المئات في الصدامات مع قوى الأمن في القاهرة. لكن الحدث الأهم كان مقتل السفير الأميركي داخل قنصلية بلاده في بنغازي، مع ثلاثة من الموظفين وقوات الأمن. والتحقيق جاري حول ما إذا كانت تلك العملية مُدبرة وبغرض الانتقام لمقتل أبي يحيى الليبي وقيادات "القاعدة"؟ وهل كانت الاعتداءات بسبب الفيلم المسيء فقط، أم فيها استحضار لكل السياسات والمواقف الأميركية في المنطقة خلال العقود الماضية؟! فجأة تغير مسار حملتي أوباما ورومني، وأقحم الشأن الخارجي وعاد الهاجس الأمني، وتم تسييس ما جرى من رومني الذي انتقد بيان الإدارة الأميركية الذي استنكر ازدراء الفيلم للدين الإسلامي، وقدّم حق منتج الفيلم في التعبير عن رأيه على ما سواه. لكن أوباما سارع لاتهام رومني بـ"إطلاق النار ثم التصويب". بينما أكد رومني أن أحداث الشرق الأوسط تثبت الحاجة لتغيير القيادة في واشنطن. أميركا العلمانية التي تحاضر على العالم في الالتزام بحرية الأديان، وتقدس التعديل الأول في دستورها، والذي يحمي ويكرس حرية الرأي والتعبير... تبدو في تناقض مع نفسها. صحيح أنها كإدارة ونظام ليست مسؤولة عن إنتاج أو تسويق الفيلم المسيء للإسلام، ولا يمكنها تقنين ما يُكتب أو يُعرض ضمن حق التعبير عن الرأي. وكان هناك فيلم عن السيد المسيح قبل سنوات استفز المسيحيين، "الإغراء الأخير للمسيح"، لكن أميركا يمكنها عمل الكثير لتخفيف الاحتقان ونزع فتيل الأزمة. وهناك حالات تشددت فيها وعاقبت من تطاول على اليهود بسبب "معاداة السامية" أو التشكيك في المحرقة. وهناك مواقف يمكن للقانون الأميركي أن يعاقب عليها كازدراء الأديان. على أميركا أن تلعب دوراً بناءً في محاربة الإسلاموفوبيا التي ازدادت وتشعبت خلال الأعوام الماضية. كنت أود لو أن أميركا أدانت وبنفس النبرة والقوة والحزم هذا الفيلم المسيء لكل المسلمين بنفس الحماس والقسوة الذين تنتقد بهما من يتطاول على اليهود ويشكك بالمحرقة. عندها نقتنع أن أميركا لا تكيل بمكيالين. وبالتالي قد لا يُقتل سفراؤها وتُقتحم سفاراتها المُحصنة في بلاد العرب والمسلمين!