جاء الحادث المؤسف بمقتل السفير الأميركي في ليبيا، والمواجهات العنيفة للجماهير المتظاهرة في مصر وتونس واليمين، احتجاجاً على عرض الفيلم المسيء، لتطرح تساؤلات حول مستقبل الديمقراطية والحرية في بلدان "الربيع العربي". وجاء مقتل الأبرياء من مسؤولي البعثة الأميركية في ليبيا، وحرق العلم الأميركي في مصر، ومداهمة السفارة الأميركية في اليمن... بقصد لفت الانتباه لقضية معينة، وهي الإساءة للرسول، لكنه قصد لا يبرر التظاهرات الجماعية والقتل والحرق وتعكير الأمن، مهما كان السبب أو الذريعة. فما الدافع الذي يحرك بعض المواطنين في مصر وتونس واليمن وليبيا، للتظاهر واللجوء للعنف والإرهاب، بدلاً من اللجوء للوسائل السلمية المشروعة لتوصيل رسالة الاحتجاج وعدم الرضا؟ تأتي خصوصية جريمة قتل السفير الأميركي في ليبيا، والمظاهرات الاحتجاجية غير المنضبطة في كل من مصر وتونس وليبيا واليمن، من حقيقة كونها حدثت في دول "الربيع العربي"، التي تحررت من أنظمتها الاستبدادية السابقة وتسنّى لشعوبها ممارسة الحرية والديمقراطية دون قيود. لكن هذه الدول تعيش مرحلة الانتقال من النظام الاستبدادي إلى النظام الديمقراطي، وتحاول ترسيخ مفاهيم الديمقراطية والحرية واحترام التعددية الفكرية ومفهوم دولة القانون والمؤسسات الدستورية. لذلك سيراقب العالم، وعلى رأسه الغرب، كيف ستتصرف هذه الدول مع أهواء الشارع ومظاهراته المنفلتة والعنف المجاني الذي أظهرته أعمال الحرق والقتل ومداهمات السفارات. ما يهمنا هو معرفة الكيفية التي ستتفاعل بها الشعوب والدول حديثة العهد بالديمقراطية، مع ما حدث من جرائم الاعتداء والحرق وغيرها؟ وهل سيكون الرد حاسماً في تطبيق القانون لردع من يعتدي على الأبرياء؟ وهل سيتم اعتبار ما حدث للسفارات مجرد تعبير عن الرأي في بلدان حديثة بالديمقراطية؟ إن استمرار عقلية الاحتجاج العنفي في بلدان "الربيع العربي"، يدل دلالة قاطعة على أننا مجتمعات لم تعتد على إدارة قضاياها في إطار المؤسسات المدنية الحديثة، وإلا فهل يعقل أن يقتل الليبيون سفيراً ساهم هو وبلده في تحرير ليبيا من نظام الطاغية؟ لقد أثبتت الجماهير بتظاهراتها المنفلتة أن هناك من لا يزال يعيش بثقافة الموت والقتل والتفكير المفرط في القبور، وأننا لم نتعلم أبسط مبادئ الديمقراطية التي يفترض أن يلتزم الجميع بها، وهي الحوار الهادئ والتظاهر السلمي واحترام الآخر وتعزيز مفاهيم الحرية المسؤولة وحقوق الإنسان والتقدم والإبداع! لماذا ينجرف شبابنا نحو التطرف وممارسة الإرهاب ضد الآخر في بلاد قررت الأخذ بالديمقراطية؟ هنالك أسباب سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية لا يتسع المجال لذكرها، لكن غياب العقل وخواؤه وانغلاق التفكير وعدم توسع المدارك الثقافية... جعلت محدودي الفهم يتصرفون على النحو الذي رأيناه. لقد أدان الرئيس الأميركي وشعبه بشدة الفيلم المسيء للرسول. أما السفير القتيل فلعب دوراً مميزاً في تحرير ليبيا، وله أصدقاء ليبيون كثيرون. لكن الجماعات الليبية المتطرفة التي هاجمت قبور وأضرحة المتصوفة، لا يمكن أن تقيم علاقات إنسانية مع الآخرين... فطريق ترسيخ الديمقراطية طويل جداً.