زميل لنا كتب مؤخراً مقالاً أشار فيه عرضاً إلى الدكتور محمد مصدق، الذي قاد حركة المعارضة في إيران ضد نظام الشاه في أوائل الخمسينيات، وقام بعملية تأميم ارتجالية للنفط بتحريض من المرجعية الشيعية التي كان يتزعمها وقتذاك "آية الله أبو القاسم كاشاني". ومما ذكره الكاتب أن تلك الأحداث لا يزال يكتنفها الغموض، ولم يكشف الكثير من خفاياها. والحقيقة هي أن هناك عشرات المؤلفات بالفارسية والفرنسية والإنجليزية التي سلطت الضوء على الحدث المذكور، وعلى شخصية صاحبه. لكن المشكلة هي إننا لا نبحث وإنْ بحثنا فلا نقرأ إلا ما نشر بلغتنا، ناهيك عما هو شائع لدينا من القراءة بلغة العواطف، لا بلغة التحليل الموضوعي، وعما تعودت عليه المجتمعات العربية والشرقية من المبالغة في تصوير شخصياتها الوطنية، وإسباغ هالات التقديس عليها، وقمع كل من يتعرض لها بالنقد. وهذا ما حدث مع "مصدق" في إيران، و"عبدالناصر" في مصر، و"جناح" في باكستان، و"ماو" في الصين، و"هوشي منه" في فيتنام مثلاً. ويجيء كتاب "وطني من بلاد فارس" للأكاديمي "كريستوفر دي بيلاغو" والصادر مؤخراً ليضيف رؤى ومعلومات جديدة عن تاريخ الحركة الوطنية الإيرانية وشخصية "مصدق"، وليدحض في الوقت نفسه الكثير من الأساطير التي عششت في عقول الكثيرين حول الأخير مثل ليبراليته، وتوجهه الديمقراطي، وحنكته السياسية، وكراهيته للغرب، وقربه من الطبقات الكادحة. صحيح أنه في أغسطس 1953 نظم اثنان من عملاء الاستخبارات المركزية الأميركية عملية أسقطت حكومة "مصدق" الذي كان الشاه عينه كرئيس للوزراء في 1951 . وصحيح أن هذه العملية الأميركية ما كانت لتنجح لولا تعاون ومباركة الإنجليز أصحاب النفوذ والمصالح والاستثمارات النفطية في إيران الخمسينيات. لكن الصحيح أيضاً هو أن "مصدق"، بعناده وعدم إجادته للعبة السياسية، وسوء تقديره للعواقب تسبب بنفسه في عملية الإطاحة به، بدليل أنه رفض التفاوض مع الانجليز واستقبال بعثة "ستوكس" البريطانية، ومقترحات بعثة "ترومان"، وعروض الوساطة من تشرتشل وترومان وإيزنهاور والبنك الدولي. وخلافاً لما قيل عنه، فإن "مصدق" لم يكن بالقائد الملهم ذي التوجهات الليبرالية، أوالزعيم الممثل لكافة أطياف الشعب الإيراني، وإنما كان رجلاً يستخدم الشعارات الشعبوية لحشد خصوم الطبقة الوسطى المدنية المتعلمة، والأثرياء وطبقة الملاك، أي الفقراء والمهمشين، ومعهم اليساريين، وآيات الله في قم ممن كانت لهم ثارات بائتة مع أسرة بهلوي منذ قيام "رضا شاه الكبير" بعصرنة البلاد وتقليص نفوذهم. وهذا ما أكدته شخصية ذات مصداقية هو "مظفر بقائي" أستاذ المنطق في جامعة طهران وعضو البرلمان وزعيم حزب "العمال الديمقراطي الشعبي" في تلك الحقبة، والذي وصف "مصدق" بأنه شاب وطني، قبل أن يتراجع ويصفه بـ "الديماغوجي"، بعدما تيقن من أفكاره ونهجه الديكتاتوري. ولسنا بحاجة هنا للتذكير بأن إيران في تلك السنوات، إنْ لم تكن ديمقراطية بالكامل، فقد كانت على الأقل ذات نظام ملكي دستوري يعين فيه الشاه رؤساء الحكومات من بين زعماء الأغلبية البرلمانية. وعليه فإن الشاه محمد رضا بهلوي، منذ تسلمه سلطاته في 1941 خلفا لوالده وحتى مغادرته طهران إلى المنفى في 1979 عين وأقال رؤساء حكومات كثيرين، لكن أياً من تلك الإقالات لم تنعت بالإنقلاب إلا في حالة "مصدق". ويذكر"كريستوفر دي بيلاغيو" في كتابه آنف الذكر، أنه لا يوجد في تاريخ مصدق السياسي الذي امتد لنحو نصف قرن كنائب، وحاكم لإقليم فارس، ووزير للمالية (في حكومة أحمد قوام السلطنة 1921) ووزير للخارجية (في حكومة مشير الدولة 1923)، ورئيس للحكومة، ما يصلح دليلا على أنه شخصية ليبرالية. بل أن العكس هو الصحيح، فقد سجل عنه قوله إن الزعيم المثالي هو من يجبر الناس على طاعته دون نقاش، وهذا طبعاً ليس من صفات الليبرالي، وإنما من صفات ذوي التوجه الإسلامي التقليدي ممن سعى "مصدق" إلى التواصل معهم، وزيارتهم في معاقلهم، وطلب نصحهم ومباركتهم. كما أنه لا يوجد دليل على أن "مصدق" كان ديمقراطياً، بل على العكس، فقد كان ميالاً للديكتاتورية بدليل أنه لم يعقد اجتماعاً كاملاً لمجلس الوزراء ولو مرة واحدة. هذا ناهيك عن أنه بمجرد وصوله إلى السلطة قام بحل مجلس الشيوخ وأغلق البرلمان وعلق الانتخابات العامة وحل المجلس الوطني للتعليم العالي، وأقال قضاة المحكمة العليا. وهكذا كان "مصدق" قبيل إقالته وتعيين الجنرال "زاهدي" مكانه في 1953 على خلاف مع الجميع إلى حد أن البعض كتب إلى الأمين العام للأمم المتحدة مطالباً تدخله لإنهاء ديكتاتورية "مصدق". والمثير أن من بين الذين وقفوا ضده هو "آية الله كاشاني". فهذا الذي كان قد أطلق صيحة "أيها الإنجليز اتركوا لنا نفطنا واخرجوا من بلادنا"، وأتبعها بقيادة مظاهرة ضخمة من قم إلى طهران للضغط على البرلمان كي يقر تأميم النفط، ثم أفتى بأن "كل من يعارض مصدق في سياسة التأميم هو عدو للإسلام"، هو نفسه من أفتى لاحقاً بأن "مصدق" معاد للإسلام" بسبب تماهيه مع اليساريين حول تحديد الملكية الزراعية. أما عن الجوانب الشخصية في سيرة الرجل، فكل الشواهد تؤكد أنه كان إقطاعياً، أي خلافاً لما قيل من أنه كان يستشعر نبض الفقراء. فهو كان أحد أبناء عمومة شاه القاجار وينتسب لواحدة من العائلات الألف الأكثر ثراء في إيران الخمسينيات، الأمر الذي سمح له ولأبنائه بتلقي الدراسة المكلفة في سويسرا وفرنسا، بل وسمح لأبنائه الاحتفاظ بمربيات فرنسيات، والعلاج في باريس وجنيف. وفيما خص موقفه من الغرب، فإن هناك أيضاً تناقضاً غريباً. فهذا الذي وصفه "دين إتشيسون" وزير الخارجية الأميركي في عهد الرئيس ترومان الذي عرفه عن قرب، بأنه "فارسي ثري، ورجعي، وكاره لبريطانيا والغرب عموماً" هو نفسه من تلقى العلم في أوروبا، وارتبطت أسرته بعلاقات خاصة مع الإنجليز لأربعة عقود، ومنْ أعلن أنه ارتبط بعلاقات مع القنصل البريطاني في بوشهر حينما كان حاكماً لإقليم فارس. هذا إضافة لما هو معروف من أنه طلب الحصول على جنسية سويسرا بعد نيله الدكتوراه منها، ولم يتخل عن الطلب إلا حينما أبلغ بأن الأمر قد يستغرق عشر سنوات. د. عبدالله المدني باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين البريد الإلكتروني: elmadani@batelco.com.bh