امتدت قضايا سفور المرأة وتعليمها وحقوقها الاجتماعية عبر العالم العربي من العراق إلى مصر، وجرت معارك طاحنة بين المحافظين والإصلاحيين. وكانت هذه القضايا برمتها موضع ارتياب شديد لدى المحافظين المتدينين، حيث اعتبروها امتداداً لمحاولات تحطيم المجتمع الإسلامي وغزوه وتغريبه، بل وتحويل المسلمين إلى نصارى. يقول الخالدي وفروخ في كتابهما المعروف التبشير والاستعمار: "يصفق المبشرون لأن المرأة المسلمة قد خرجت إلى الهواء الطلق، لأن فعلها هذا يتيح للمبشرين أن يتغلغلوا عن طريق المرأة في الأسرة المسلمة بتعاليمهم التبشيرية". وقد دعا الإصلاحيون في مصر، مثل الطهطاوي وقاسم أمين والشيخ محمد عبده، إلى الاهتمام بأحوال المرأة ورفع مستوى مشاركتها الاجتماعية، كما انقسم شعراء مصر، كما العراق وغيرها، بين مدافع عن الحجاب وداع إلى السفور. ومن المرجح، كما يرى الباحث "عادل أبو عمشة"، أن تكون "عائشة التيمورية"(1840-1902)، من أوائل الشعراء "الذين نظموا في الحجاب، والرد على مزاعم القائلين بأن الحجاب يعوق المرأة عن الخوض في مسائل العلم والأدب". وكان الشاعر أحمد محرم من أشد المعارضين لدعوة قاسم إلى سفور المرأة، حيث كان يرى "أن كتاب قاسم أخطر على الأمة من جيش يهاجمها، وأن رائحة الموت تظهر في كل سطر، بل في كل كلمة من كلماته. وكان ممن ساءهم خروج المرأة إلى الأماكن العامة الشاعر "حسن القاياني" و"محمد عبدالمطلب"، وقد وافقهم في ذلك بعض الشعراء في الشام مثل "عبدالحميد الرافعي"، الذي كان الحجاب عنده "أن تستر المرأة وجهها وتقيم في بيتها"! وقد كان الرافعي أشد الشعراء سخطاً على دعاة السفور وأشدهم تمسكاً بالحجاب، ومن الشعراء الشوام الآخرين مصطفى الغلاييني وأمين تقي الدين وأمين ناصر الدين. ولم ير آخرون من الشعراء في مصر بأساً في رفع النقاب والخروج من البيت، وقد انقسم هؤلاء إلى مؤيد متحفظ مثل شوقي وحافظ وباحثة البادية، ومؤيد بلا تحفظ أو على الإطلاق، مثل ولي الدين يكن، وعبدالرحمن شكري وأحمد نسيم وعلي الجارم وصالح الشرنوبي ومحمود أبوالوفا وخليل مطران. وقد عبر شوقي عن تأييده لسفور المرأة التركية، ولكنه فيما يبدو كان معجباً بنساء الأتراك سافرات ومبرقعات! فالسافرات اللواتي رآهن على ماء "كوك صو في استانبول، كُنَّ كالملائكة أو حوريات الجنة، والمبرقعات من النساء التركيات لا تخفي البراقع جمالهن، وإنما يبدو هذا الجمال للرائي كما تبدو الشمس من خلال الغيوم. وفي العراق، عدَّ "جميل صدقي الزهاوي" السفور قضية اجتماعية مهمة يتوقف عليها تقدم المجتمع المسلم، وأن هذا التقدم سيظل ناقصاً ما لم تشارك فيه المرأة، ومشاركتها لا تكون إلا بسفورها، أي الكشف عن وجهها في حياتها العامة، ويذكر الكاتب الإسلامي "أنور الجندي" في كتابه عن الفكر العربي المعاصر، القاهرة 1961، "أن الزهاوي عندما جاء إلى مصر كانت معه زوجته المحجبة التي لم تخرج معه في طريق واحد". وللزهاوي أشعار كثيرة في تأييد السفور وتحرر المرأة من بينها. وجعل "الرصافي" حجاب المرأة سبباً من الأسباب التي أبقت على العراقيين تحت حكم الغرباء (أي الأتراك)، لأنهم تربوا في حُجور نساء عُوملن معاملة العبيد، فربيّن أجيالاً رضعت الذل وشبّت عليه، وهان عليهم تحمل جور الساسة الغرباء حين هانت نساؤهم. ولابد هنا من وقفة تعريفية لكل من السفور والحجاب، فليس للمصطلحين اليوم نفس الدلالة التي كانت لهما في بداية القرن العشرين. فالحجاب مثلاً، الذي هاجمه قاسم أمين وتيار تحرير المرأة، لم يكن حجاب اليوم الذي انتشر في الكويت ومصر وغيرها منذ عام 1970، والذي هو عبارة عن قطعة قماش تغطي الشعر والرقبة وربما أطراف وجه المرأة. بل كان الحجاب في العالم الإسلامي نظاماً كاملاً من تغطية جسم المرأة ووجهها بالقماش الأسود أو لون قاتم، كما رأينا في أفغانستان مثلاً، مع الحرص الشديد على العزل بين الجنسين، والابقاء على المرأة بالذات محجوبة محبوسة في المنزل لا يراها أحد، ولا تخرج منه إلا لضرورة قصوى، وبالتالي كان الحجاب يعزل المرأة عن الحياة العامة بشكل شبه تام. ويصف "رفعت باشا" هيئة نساء مكة في أوائل القرن العشرين عند خروجهن بقوله: "ويخرجن إلى الأسواق بملاءات واسعة سوداوات في الأكثر، وبرقع كثيف فيه ثقبان صغيران في محاذاة العينين". ويصف "العظم" نساء صنعاء بأنهن "يحتجبن من أخمص أقدامهن حتى أعلى رؤوسهن، ولا يميز المرء بين وجه المرأة وظهرها إذا كانت ماشية إلا من حركتها، لأن حجابها يغطيها غطاء تاماً. وفي بعض مدن حضرموت، وصلت المبالغة في الحجاب إلى حد أن المرأة لا تتصل حتى بالمرأة التي تستقي لها الماء، وإنما تعلق القِرْبَة في دهليز الدار وتخرج، فتجيء ربة الدار وتأخذها لتفرغ ما فيها وتعيدها لتأخذها الأخرى بدورها، وتضع قربة أخرى محلها وهكذا. وبالطبع لم تلتزم كل مدن العالم الإسلامي بحجاب متشدد كهذا، واختلف حجاب الطبقات الفقيرة عن حجاب نساء الطبقات الرفيعة والثرية، واختلف كذلك مدى الحجاب بين المدينة والقرية الريفية ومضارب القبائل البدوية في الصحراء. وكان الحجاب بهذا الشكل عبئاً حقيقياً يثقل كاهل المرأة ويعيق أبسط حركة لها خارج المنزل ويتناقض بشكل صارخ مع مستلزمات الحياة الحديثة في المدن بالذات، حيث بدأت التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبدأ الحراك الاجتماعي والسفر إلى الخارج وانتشار التعليم. أما "السفور" فكان يقصد به كشف المرأة عن وجهها في الحياة العامة، دون أن يقصد بهذا الكشف والإسفار تقصير الثياب مثلاً أو حتى كشف الشعر والرقبة. وبهذا المعنى، فإن "كل المحجبات" اليوم في الكويت ومصر وإيران والأردن، هن في الواقع "سافرات"، حيث أنهن يتعاملن مع المجتمع، ويذهبن إلى الجامعة والجامع، وإلى المدرسة والمطعم سافرات، أي دون أن يغطين وجوههن. بل وحتى المنقبات ومرتديات أنواع البراقع من الفتيات ونساء اليوم، لا يدركن حقيقة معنى "نظام الحجاب"، والعزلة الاجتماعية الشديدة الكاملة التي عاشها معظم نساء العالم الإسلامي حتى فترة قريبة. فالكثير منهن اليوم يترددن على الأسواق، ويقدن السيارات، ويذهبن إلى المدارس والجامعات والمطاعم والوزارات، ويمارسن أحياناً رياضة المشي... وهن منقبات! وكانت هذه كلها من المستحيلات في زمن "محجبات" قاسم أمين.. رحمه الله! كتب قاسم أمين في كتابه تحرير المرأة، القاهرة 1899، يقول: "ربما يتوهم ناظر أنني أرى الآن رفع الحجاب بالمرة، لكن الحقيقة غير ذلك، فإنني لا أزال أدافع عن الحجاب واعتبره أصلاً من أصول الآداب التي يلزم التمسك بها، غير أني أطلب أن يكون منطبقاً على ما جاء في الشريعة الإسلامية... والذي أراه في هذا الموضوع هو أن الغربيين قد غلوا في إباحة التكشف للنساء إلى درجة يصعب معها أن تتصوَّن المرأة من التعرض لمثارات الشهوة، ولا ترضاه عاطفة الحياء، وقد تغالينا نحن في طلب التحجب والتحرج من ظهور النساء لأعين الرجال حتى صيّرنا المرأة أداة من الأدوات أو متاعاً من المقتنيات، وحرمناها من كل المزايا العقلية والأدبية التي أعدت لها بمقتضى الفطرة الإنسانية، وبين هذين الطرفين وسط سنبيِّنُه هو الحجاب الشرعي، وهو الذي ندعو إليه". (الأعمال الكاملة، ص 350). وفي العام التالي، كتب في كتابه اللاحق "المرأة الجديدة" يقول شارحاً مستقبل العائلة المصرية والإسلامية كما كان يحلم به، وشاكياً مما ناله من المتشددين والمحافظين: "إذا أراد المصريون أن يصلحوا أحوالهم فعليهم أن يبتدئوا في الإصلاح من أوله. يجب عليهم أن يعتقدوا بأن لا رجاء في أن يكونوا أمة حية ذات شأن بين الأمم الراقية ومقام في عالم التمدن الإنساني، قبل أن تكون بيوتهم وعائلاتهم وسطاً صالحاً لإعداد رجال متصفين بتلك الصفات التي يتوقف عليها النجاح، ولا رجاء في أن البيوت والعائلات تصير ذلك الوسط الصالح إلا إذا تربت النساء وشاركن الرجال في أفكارهم وآمالهم وآلامهم إن لم يشاركنهم في جميع أعمالهم. خليل علي حيدر كاتب ومفكر - الكويت