ليس سرّاً أنّ أمور "حركة النهضة" الحاكمة وائتلافها في تونس ليست على ما يرام. وما دامت "النهضة" هي السلطة، أمكن القول إنّ أمور تونس نفسها ليست على ما يرام. تكفي نظرة سريعة إلى بعض أحداث الأسابيع القليلة الماضية كي تُعلمنا بذلك:فقد سبق لرئيس الجمهورية المنصف المرزوقي أن وجّه انتقادات حادّة لشركائه في الائتلاف. وهو في كلمته التي ألقيت في مؤتمر حزبه "المؤتمر من أجل الجمهورية" لم يتردّد في التحذير من رغبة "النهضة" في التسلّط والإمساك بمفاصل الدولة. ويبدو التعثّر اليوم واضحاً في التعاطي مع الهموم الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة، لاسيما بعدما رُفعت مؤخّراً أسعار الوقود بنسبة 7.2 في المئة لخفض العجز في الميزانية. ومعروف أنّ تونس تئنّ أصلاً تحت وطأة المفاعيل التي خلّفها الانتقال الثوري من عهد زين العابدين بن علي إلى العهد الحالي. وبالفعل فإنّ احتجاجات الشبّان والعاطلين عن العمل تتوالى في غير منطقة. كذلك تشعر البيئة الثقافية والفنية بالخوف، وكان آخر تعابير المحنة المتمادية التي يعانيها المبدعون، لا سيما منهم المبدعات، إحالة الفنانين نادية الجلاصي ومحمّد بن سلامة إلى التحقيق لأسباب سخيفة، ناهيك عن الدعوة إلى "تطهير الإعلام" التي أثارت استياء واسعاً، خصوصاً وقد تلتها، قبل أيّام، خطبة حبيب اللوز، الصحفي والقيادي في "النهضة"، حيث دعا إلى "ضرب الإعلام"، واصفاً الصحفيين بأنّهم "معادون للثورة". وهذا ما استدعى، في المقابل، تنديد النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين بما أسمته "تحريضاً على العنف" من قبل اللوز، وتعهّدها القيام "بكل الإجراءات القانونية الواجبة لتتبّعه قضائيّاً". وبدورهم، لا يتردد السلفيون في العمل على إغراق سفينة الاقتصاد، فضلاً عن الحريات، أكثر فأكثر، من خلال تعدياتهم على القطاع السياحي البالغ الأهمية للاقتصاد التونسي. فهم مؤخّراً، وكمَثل غير حصري، هاجموا الفندق الصغير الوحيد في مدينة سيدي بوزيد وعبثوا بمحتوياته بحجّة تقديمه المشروبات الكحولية لضيوفه. وهذا معطوفاً على ارتكابات أخرى للسلفيين سجّلتها الأيام القليلة الماضية، كالاعتداء على لقاء نسائي لحزب "نداء تونس" في مدينة صفاقس. والحال أنّ "حركة النهضة" بوصفها الطرف الذي يتولّى السلطة، تبقى مسؤولة، أكان عن الاقتصاد وأحوال الائتلاف، أم عن تعديات السلفيين وانتهاكاتهم الكثيرة. ولأن الأمور لا يمكن أن تُفهم إلاّ على هذا النحو، بدأت علامات الضعف والوهن تتعاور السلطة الجديدة في تونس. فقد أُحرق عدد من مقارّ "النهضة" في مدن ومحافظات كصفاقس وسيدي بوزيد وسليانة والمنستير والكاف. وإذ دعت الحركة الحاكمة إلى تظاهرة "مليونية" في ساحة القصبة وسط تونس العاصمة، يوم الجمعة في 7/9، لم تستطع تلك التظاهرة أن تحشد أكثر من عشرة آلاف متظاهر في أكثر التقديرات سخاء. وجدير بالذكر أنّ الهدف من وراء تلك التظاهرة كان دعم السياسات الحكومية ودعوتها إلى مزيد من الحزم في مكافحة الفساد. والراهن أنّ في هذا كلّه شيئاً من التناقض والالتواء اللذين يستحيل إخفاؤهما: ذلك أنّ ضعف النظام هو نفسه ما آل ويؤول إلى التسامح مع بعض فاسدي النظام السابق ومنحهم مناصب أساسية في مجالات الاقتصاد والمال والمؤسسات الإعلامية. وقد ظهر الاستياء جليّاً في النواة الصلبة لقاعدة الثورة نفسها. هكذا شهدت مدينة القصرين في وسط غرب تونس تظاهرات وإضراباً عن الطعام لأقرباء ضحايا ثورة 2011، وواصل عشرات السكّان الذين تمّ إخلاؤهم من مكتب حاكم ولاية القصرين، بعدما احتلّوه تعبيراً عن احتجاجهم، تجمّعهم في مقر الاتحاد العام التونسي للشغل، كما أعلن ثلاثة وعشرون من بينهم الإضراب عن الطعام. وهؤلاء، وهم ينتمون إلى شرائح اجتماعية فقيرة، يطالبون بالعمل والعدالة وبتعويضات لجرحى وأقارب ضحايا الثورة، فضلاً عن تنحّي حاكم الولاية، وهو عضو في "النهضة"، يتهمونه برفض التعامل مع ملف الضحايا. وبغض النظر عمّا إذا كانت "النهضة" متواطئة مع السلفيين أم لا،فإنّ بقاء تعدياتهم من دون ردع كافٍ إنّما يهدد باتجاه التونسيين إلى اعتماد الحماية الذاتية الموازية في مواجهة انتهاكاتهم. وهذا إذا تُرك من دون تدخّل رسمي يمكن أن يسفر عن نشأة حالات ميليشيوية خطيرة على مستقبل ووحدة الدولة والمجتمع التونسيين. لهذا فإنّ المهمّة الأولى في تونس اليوم هي تعليم "حركة النهضة" كيف تحكم، أي كيف تحافظ على وحدة الدولة وتتقيد، في الآن نفسه، بالحدود والضوابط الدستورية على السلطة وممارساتها. وهنا لا بدّ أن يكون للدول الغربية، لا سيما المؤثرة منها في الاقتصاد التونسي، دورها، بحيث تضيف ضغطها إلى ضغوط التونسيين والتونسيات الشجعان الذين يتولون المواجهة مع "النهضة" على صعيد الحكم، ومع السلفيين على صعيد الشارع. لقد أنجزت الثورة التونسية، التي افتتح بها "الربيع العربي"، هدفاً كبيراً وعظيماً، هو إزاحة الحاكم المستبد وإقامة حياة سياسية وحزبية في البلد. وحتى تلك الأحداث والتطورات التي أشرنا أعلاه إلى بعضها، دليل على أنّ الثورة أطلقت حيوية المجتمع وحرّرت قدرته التعبيرية بعد عقود من التجميد في قالب الزعيم الأوحد. لكنْ يبقى على الثورة التونسية الآن أن تنجز هدفها الآخر الذي لا يقل أهمية، وهو تشذيب تلك الحياة السياسية وفرض ضوابطها على القوى التي تزخر خلفياتها التاريخية بعداء للديموقراطية أكثر ممّا تشهد على ديموقراطيتها. فإذا لم يمكن ذلك، تحوّل إقرار "النهضة" اللفظي بالتداول السياسي السلمي على السلطة إلى إقرار شكلي وفارغ يمكن الالتفاف عليه بألف طريقة وطريقة. ألم يقرّر وزير الخارجية النهضوي، وصهر زعيم "النهضة" الشيخ راشد الغنوشي، رفيق عبد السلام بوشلاكة، أنّ حركته باقية في الحكم سنوات طويلة؟ أولم يُرفَض حتى الآن تحديد مواعيد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة؟ إنّ هذا مقلق بما فيه الكفاية، لا على الثورة التونسية فحسب، بل على تونس أيضاً.