مر جدل مصر حول هويتها بجولات من "الكر والفر" آخرها ما يتم الآن بعد وصول جماعة "الإخوان" إلى سدة الحكم، وقبلها بسنوات وتحديداً في عام 2004 عندما أقدمت مجموعة من الأشخاص يتزعمها ابن شقيق المفكر المعروف أحمد لطفي السيد، الذي ناهض الوجهة القومية، بالتقدم إلى "لجنة الأحزاب" في البرلمان المصري بغية الحصول على مسوغ قانوني لـ"حزب مصر الأم"، الذي يسلخ البلاد من انتمائها العربي، ويطالب بإحياء اللغة الهيروغليفية والتقويم القبطي وإلغاء بند الديانة من "الـهُـويات"، والنظر إلى العرب على أنهم مجرد "جيران" يمكن التفاعل الإيجابي معهم، وليسوا شركاء مصير. وهذه بالطبع ليست المرة الأولى التي تشهد فيها مصر من يطلق هذه النـزعة القطرية الضيقة، أو الأممية الواسعة، فطالما انتاب بعضَ المصريين، في أيام الهزائم والانكسار التي ألمت بالعرب، قنوطٌ شديد حيال هـُـويتهم العربية، وانسحبوا داخل أنفسهم، وأحاطوها بسياج محكم من الانتماء القطري الضيق، الذي ينـزع مصر من سياقها الأوسع، ويقطع صلتها بتاريخها ومصالحها في آن واحد. ويستدعي الذهن هنا جدلاً قديماً، لم يصمد أمام دفع التيار الأكبر في الحياة الاجتماعية الثرية للمصريين بمختـلِـف شرائحهم الاجتماعية ومشاربهم الفكرية وتوجهاتهم السياسية، حول هـُـوية مصر، التي أراد لها أحد حكامها، وهو الخديوي إسماعيل، يوماً أن تكون "قطعة من أوروبا"، وتمناها طه حسين "بحرمتوسطية" وأراد لها البعض أن تجلب "الفرعونية" فقط، إلى الحاضر المعيش ولا تتركها منسية في التاريخ البعيد. وسعى آخرون إلى ليِّ عنق الشعار العظيم الذي رفعته النخبة السياسية والاجتماعية والفكرية إبان أيام الاحتلال وهو "مصر للمصريين"، ليستمر في الزمان والمكان، غريباً على مفهومه المحدد الذي قصده من تبنوه، ليس له أدنى علاقة بالهدف الذي رُفـِـع من أجله. لكن هذا الجدل، الذي يطفو ويغوص، يتأجج ويخبو، بين حدود النخبة المصرية، يصادر الميول النفسية والتصورات الذهنية والأبعاد الاجتماعية بحمولاتها الدينية والعقدية، لشعب برمته، لم يشك يوماً في هـُــويته العربية، ولم يجد أي داعٍ لطرح تساؤل حول هذا الأمر، بل يعلو على جدل المثقفين، ليراكم مما تنتجه قريحته، وهو ما يؤكد توجهه الفطري نحو العروبة، متحرراً من عقد النخبة المصرية وظنونها، مع أنها لم تبرح، على مدار أكثر من قرن ونصف قرن من الزمن المكان نفسه، الذي مكث فيه الرعيل الأول من المفكرين المستنيرين، والساسة الأحرار. فالقريحة الشعبية المصرية تسطر توجهاتها بعفوية، لا تعرف تخطيط المثقفين ومآربهم الموزعة على مصالح ضيقة أحياناً، وتتلمس خطاها بشفافية لا تتوقف أبداً أمام نصوصهم التي يلفها الغموض وتصيبها المواربة. وهذه التوجهات تقطع أي شك حول عروبة مصر. فالأبطال الأسطوريون الذين تحفل بهم السير الشعبية المصرية هم عرب، مثل "أبو زيد الهلالي"، و"سيف بن ذي يزن"، و"حمزة البهلوان"، و"الزير سالم"، و"ذات الهمة". والأشخاص الذين يتخذهم أغلب المصريين قدوة ومثالاً هم من عرب الجزيرة. نعم.. لم تغفل القريحة المصرية السيرة الفرعونية، في "إيزيس وأوزوريس" و"كليوباترا وأنطونيو" و"عايدة"، ولم تنسَ حكمة "الفلاح الفصيح" أو ورع "إخناتون" المنادي بالتوحيد، لكن كل هذه الحكايات ظلت ذات طابع نخبوي، بينما غلب الطابع العربي ـ الإسلامي على القريحة الشعبية، وبدت الفرعونية تحمل معنى سلبياً في الخطاب السياسي والديني للمسلمين المصريين وبعض الأقباط، فـ"الفرعونية السياسية" تعني الاستبداد، والفرعون بالمفهوم الديني يعني "المروق والتكبر"، لكنها احتفظت بجلالها في الخطاب الثقافي لترتبط بأول حضارة إنسانية لا تزال آثارها تشهد على عظمتها. كما مزجت مصر تاريخها، وصهرت كل ثقافات الغزاة الذين مروا بها على مدار التاريخ، لتصبح وثيقة من جلد رقيق، يظهر فيها القرآن فوق الإنجيل ويعتلي الاثنان هيرودوت. وتحت الجميع، لا تزال الكتابة القديمة تقرأ بوضوح وجلاء. من هنا، لم يكن الجدل حول الـهـُـوية ورغبة البعض في الانكفاء على الذات يؤرق المصريين سوى في أيام المحن التي تلم بالعرب، ربما ليأس جارف من إصلاح الحال، أو شوفينية مريضة زائفة للنجاة بالنفس، أو شعور بعدم جدوى الرهان على العروبة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. وهنا يجب أن نعرف حقيقة تاريخية مهمة وهي أن العرب سكنوا مصر قبل ظهور الإسلام، وهذه مسألة غائبة عن أذهان كثيرين. كما أن العربية لسان، وليست عرقاً، وكل من تكلمها فهو عربي، والآن يتحدث المصريون جميعاً اللغة العربية بمختلف لهجاتها. وإذا كان هذا الجدل قد تجدد قبل سنوات، في زمن "الشرق الأوسط الكبير"، وأخذ في مصر شكلاً مؤسساً بصيغة حزب سياسي أراد أن يولد على أكف هذه الظروف، ورأى كثيرون وقتها أنه من الواجب عدم التعامل معه على أنه مجرد "سحابة صيف"، أو هبة ريح قصيرة ضعيفة لن يكون بوسعها أن تغير مجرى النهر، وقالوا إن هؤلاء الراغبين في تأسيس "حزب فرعوني" يدقون بقوة ناقوس الخطر أمام من يصمدون خلف جدار العروبة الأخير، بأن النـزعة القطرية، التي ظن البعض أنها قد خمدت، يمكنها أن تحيا في مصر وغيرها، ليتفكك العرب إلى دول، فرادى، فيسهل وقتها هضمهم في "شرق أوسط كبير". لكن هذا كان فيه مبالغة، فالأيام تمضي لتثبت أن الهوية العربية لمصر ليست محل جدل، ومعطيات التاريخ تبرهن على أن المؤمنين بعروبة مصر أقوى من أن يجرفهم تيار "الفرعونية" أو "البحرمتوسطية"، أو "القطرية الضيقة" أو حتى أولئك الذين ينادون بنهاية القومية العربية لحساب الأممية الإسلامية، ففي الحقيقة لا تعارض بين الاثنين، بل هناك تكامل، أو تداخل، أو تتابع في دوائر انتماء متصلة.