حاولت في مقال سابق عنوانه "الثورة الشاملة في مواجهة ثلاثية الزمن" (نشر في 30 أغسطس 2012) أن أحدد موقفي من ثلاثية الزمن، وأعني الماضي والحاضر والمستقبل. وقلت في هذا المقال: "لقد أحسست أنني باعتباري باحثاً علمياً في العلم الاجتماعي بهذا الكم من المقالات (أكثر من 80 مقالة منذ اندلاع ثورة 25 يناير حتى الآن) حاولت أن ألهث وراء الأحداث المتلاحقة وأغرقت نفسي في الحاضر وتركت تماماً قضية المستقبل، والذي أكثرت من الحديث عنه قبل الثورة، حين طرحت أهمية صياغة رؤية استراتيجية لمصر، لذلك أدركت أنه آن الأوان لأقول للحاضر وداعاً وأتوجه إلى المستقبل لأقول مرحباً! وبعد أن كتبت هذه العبارة التي أعلن فيها توجهي للحديث عن المستقبل أدركت أن الماضي بمشكلاته المتعددة مازال للأسف يعيش في أذهان الناس وذلك منذ ثورة يوليو 1952 حتى الآن. ومن ناحية أخرى ساءلت نفسي هل أستطيع أن أنسى مشكلات الحاضر ولو مؤقتاً حتى أدلف إلى آفاق المستقبل؟ وإجابة على ذلك قررت بالفعل أن أكرس مقالاتي القادمة عن أهمية وضع رؤية استراتيجية مصرية. والرؤية الاستراتيجية -بحسب التعريف- هي سياسات بلد ما الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في العشرين عاماً القادمة. كانت تلك إحدى القضايا التي اهتممت بها اهتماماً خاصاً قبل ثورة 25 يناير 2012، وكتبت عنها مقالات متعددة. وتشاء الأقدار أن ينظم لقاء -قبل الثورة- بين مجموعة من الكتاب والمثقفين والرئيس السابق "مبارك"، وقد حضرت اللقاء وشاركت فيه بإيجابية، ومارست في مواجهة مبارك ما أسميه دائماً النقد الاجتماعي المسؤول، رغم أن بعض صغار الصحفيين حاولوا عبثاً تشويه ما حدث في ذلك الاجتماع. لقد كنت أول المتحدثين في الاجتماع، وهناك شهود على ذلك لا يقلون عن عشرة من كبار الكتاب والأدباء، وقلت للرئيس السابق: "مصر ليست فيها رؤية استراتيجية وهذا سر التذبذب الشديد في عملية اتخاذ القرارات التنموية وفي مظاهر التردي الاجتماعي الشديد". وأكدت على أن وضع رؤية استراتيجية مهمة أساسية تقوم بها الدول الآن على اختلاف أنظمتها السياسية، وضربت مثلاً بالرؤية الاستراتيجية الأميركية والتي نشرت بعنوان "رسم خريطة المستقبل الكوني"، والرؤية الاستراتيجية الإسرائيلية. وإذا كان آخر لقاء حضرته لـ"مبارك" مع الكتاب والمثقفين، حدث قبيل الثورة بشهور قليلة، فإن الأقدار شاءت لي أن أحضر أول لقاء بين الدكتور محمد مرسي، رئيس الجمهورية، ومجموعة متنوعة من الكتاب والأدباء والفنانين، تم في قصر الاتحادية يوم السادس من سبتمبر الجاري. وكنت في هذا الاجتماع المتحدث الثاني، وركزت كلمتي بعد تأكيدي أن حرية التفكير وحرية التعبير وحرية الإبداع من مستلزمات الديمقراطية على موضوع ضرورة وضع رؤية استراتيجية لمصر. وأكدت لرئيس الجمهورية أن هذه الرؤية لا ينبغي أن ينفرد بها حزب سياسي واحد، ولو كان حزب الأغلبية، سواء في ذلك "الحزب الوطني" (كما كتبنا قبل الثورة)، أو جماعة "الإخوان المسلمين" حالياً، لأن وضع الرؤية الاستراتيجية هو عملية مجتمعية ينبغي أن تشارك فيها كل المؤسسات البحثية المصرية (الجامعات ومراكز الأبحاث)، بالإضافة إلى الخبراء المرموقين في كل قطاعات الدولة. وهذه الرؤية الاستراتيجية ينبغي بعد وضعها أن تعرض للنقاش العام في سياق حوار وطني شامل، تشارك فيه كل الأطياف السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وبعد أن يتم الاتفاق على الخطوط الرئيسية للوثيقة تصبح ملزمة لكافة مؤسسات الدولة، وينبغي على الوزارات التي ستتشكل بعدها أن تلتزم بها. بل طالبت بالغاء "مجلس الشورى"- خصوصاً ونحن نضع دستوراً جديداً- بعد ما أثبتت نسبة التصويت المتدنية للغاية في انتخاباته الأخيرة (لم تزد عن 10 في المئة) أن الشعب يتبنى اتجاهاً سلبياً إزاءه. واقترحت أن يستبدل بنص دستوري بما أسميته "المجلس الأعلى للتخطيط الاستراتيجي" والذي يصدر قرار جمهوري بتعيين أعضائه. ويمكن لهذا المجلس أن يضم عناصر ممثلة وإيجابية للائتلافات الثورية، ولأساتذة الجامعات والخبراء والمثقفين، وممثلي مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية. بعبارة أخرى أن يكون هذا المجلس بيت خبرة للعقول المصرية المبدعة، التي ستتفرغ لوضع رؤية استراتيجية لمصر وتمارس دورها في تعديلها كلما جدت الظروف، بل والرقابة على تنفيذها بصورة سليمة. وأكدت للدكتور مرسي أننا لن نبدأ من الصفر في هذا المجال. فلدينا أولاً المشروع المبدئي (مصر 2030) الذي أعده مركز الدراسات المستقبلية وصاغ خطوطاً عريضة لرؤية استراتيجية مصرية، ولدينا جهد رائد مكثف وشامل أشرف عليه الدكتور "فتحي البرادعي"، أستاذ التخطيط العمراني المرموق والذي كان من قبل محافظاً متميزاً لدمياط، وأصبح من بعد وزيراً للإسكان وله جهود رائدة في هذا المجال. لقد أشرف "البرادعي" على مشروع لرؤية استراتيجية لمصر صدرت مجلداته الأربعة في نوفمبر 2011. المجلد الأول عنوانه المخطط الاستراتيجي القومي للتنمية العمرانية، والثاني تقسيم مصر إلى أقاليم تنموية "تفعيل توجهات المخطط الاستراتيجي القومي للتنمية العمرانية"، والثالث "المخطط المبدئي لتنمية منطقة شرق بور سعيد" والرابع "برنامج الإسكان والتنمية العمرانية". وأشهد أن الدكتور مرسى أبدى اهتماماً شديداً بهذه الجهود المصرية الرائدة، وطلب مني في نهاية اللقاء أن أرسل له نسخة من هذه المجلدات الأربعة. وقد اتصلت تليفونياً بالدكتور البرادعي، صاحب الفضل الأول في هذا المشروع القومي، كي يرسل للرئيس نسخة كاملة من المشروع، وكذلك بالدكتور "محمد منصور" لكي يرسل للرئاسة منشورات مشروع مصر 2030. كانت هذه مجرد مقدمة للحديث عن الرؤية الاستراتيجية لمصر سأتبعها إن شاء الله بمجموعة مقالات أستعرض فيها بعض الجوانب الأساسية لهذه الجهود المصرية الرائدة.