المجتمعات المتطورة تهتم كثيراً بنوعية وعدد شريحة العلماء والمفكرين والباحثين فيها، من خلالهم تقيس ثقلها الأكاديمي وموقع تنافسيتها في الأوساط العلمية وتستطيع أن تحدد مسارها، وحجم الوعي المعرفي الذي يمكن أن ترسخه هذه الطبقة، فهؤلاء يأخذونها ويرشدونها نحو مستقبل أفضل، لهذا تفاخر بهم، وتستقطبهم حكومات هذه الدول وتحاول أن توفر لهم مختلف سبل البحث وتجعلهم في بيئة إلهام وإبداع لأنهم أحد معايير تطورها وخبراتها ونجاحاتها. أين هذه الفئة في مجتمعنا الإماراتي؟ وكم عدد الذين يحملون درجة مدرس جامعي (دكتور) أو بروفيسور عندنا؟ وفي أي تخصصات يكثر تعدادهم؟ وكم نسبة الذين يحرصون منهم على استمرارية التعلم والقيام بالمجهود البحثي لتطوير قدراتهم نحو درجات علمية أعلى ولخدمة المجتمع؟ وهل نحن بلد يشجع على البحث العلمي؟ وهل عندنا مؤسسات مؤهلة وكافيه وتعمل على استقطاب الكفاءات وتستثمر في هذا الجانب بما يخدم الوطن؟ لاشك أن جامعة الإمارات هي أكبر حاضن ومشجع للكفاءات التدريسية المواطنة، هكذا كانت في الثمانينيات والتسعينيات تحديداً، كعدد ونوعية وكذلك كمشاركة من أصحاب الكفاءات في خدمة المجتمع من خلال البحوث والدراسات والكتابات الفكرية التي كانوا ينشرونها، فحماسهم ووجودهم المجتمعي كان يشعر به الجميع آنذاك. اليوم أتمنى أن يكون ذلك الوهج لا يزال مستمراً داخل أروقة المبنى الحديث والفخم، وأن يكون عدد الأساتذة المواطنين في تزايد، وأن يكون مشروع "المعيدين" مستمراً. لكن أين مشاركة هؤلاء الأساتذة في قضايا الوطن وخدمة المجتمع من خلال تخصصاتهم، كما فعل من سبقهم؟ إجابة هذا السؤال يملكها هؤلاء وأيضاً المؤسسة العلمية التي ينتمون إليها، والتي يفترض من إدارتها أن تكون حريصة على تشجيع هذا الدور وإبرازه، لأنه يقيس عراقتها ونجاحها في خدمة وتطوير المجتمع وتنمية البحث العلمي. كذلك، أين بقية الجامعات والمؤسسات التعليمية؟ عندنا في الإمارات عشرات الجامعات والهيئات التعليمية، لكن جهودها في هذا المجال قد تكون معدومة أو لا تصل إلى الإعلام، ولا يعرف المجتمع عنها شيئاً. المؤسسة الوحيدة التي لا تزال إلى اليوم تمارس تنمية البحث العلمي وتشجيع الباحث المواطن، وتبني الشباب وفق أسس علمية وتمتلك رؤية مستقبلية هي "مركز الإمارات للدارسات والبحوث الاستراتيجية". الاستثمار الوطني الأهم الذي قدمه المركز هو مجموعة الأسماء المواطنة الشابة المتخصصة في البحث العلمي التي قدمها للمجتمع، والإصدارات القيّمة والنشاط المتواصل للمركز في إقامة المؤتمرات والندوات العلمية التي تناقش قضايا الساعة وشؤون المنطقة. المبادرة التي أعلن عنها صاحب السمو حاكم الشارقة قبل أسابيع في فتح باب الدراسات العليا لدرجتي الماجستير والدكتوراه لأبناء وبنات الإمارات في جامعة الشارقة والأميركية، هذه أعظم وأهم منحة ينتظرها كل طالب طموح، إنها تشجعهم على التفوق والمثابرة وهم على مقاعد الدراسة الجامعية، وتكمل جهود المؤسسات العلمية، وتثري المجتمع وتغذيه بكفاءات عالية ودماء جديدة، وتضيف لمجهودات التعليم العالي داخل الدولة وترفع خبراته وتصقل تجاربه خاصة في مجال الاحتراف والمكانة الدولية، فهي استثمار في الإنسان، كما تدعم إمكانيات الجامعات ورفع مواردها. صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة كان كريماً كعادته، ونظرته كانت بعيدة عندما أعلن عن المبادرة ووسع نطاقها فلم يحدد لها سقفاً ولا رقماً ولا مدة. ونتمنى من الجهاز التنفيذي بجامعة الشارقة أن يكون على قدر الطموحات في تحقيق هذه الرؤية. أن لا يضيق هذا الحلم ولا يختزل هذه المبادرة الكريمة، ولا يدخلها في فلك الروتين، وأن يسعى إلى استثمارها ودعمها وإكسابها بعداً أكاديمياً وإعلامياً يليق بها. وأهم المبادرات كذلك في دعم وتقدير "الدكتور المواطن"، هي جائزة راشد للتفوق العلمي التي تحتفي هذا العام بدورتها الرابعة والعشرين لتكريم الحاصلين على درجة الدكتوراه والأستاذية، ويحسب لندوة الثقافة والعلوم بدبي أنها استطاعت أن تحافظ على هذا التقليد وتثبت حضور الجائزة على مدار ربع قرن تقريباً، رغم أن الندوة في النهاية تنتمي إلى قائمة جمعيات النفع العام التي أثبت أغلبها تعثره، وعدم استمراريته في تبني المشاريع والمحافظة على صناعة النجاح ودعم القطاع الذي ينتمي إليه. وليت الندوة وهي تحتفي بالمكرمين في هذه الدورة المميزة أن تقدم للمجتمع كتاباً مرجعياً يضم ملخصات عن أطروحات الرسائل العلمية للمكرمين طوال السنوات الماضية، إذ لا شك أن معظمها كان يناقش قضايا تتعلق بالمجتمع أو بمؤسسات الحكومة. هذا العمل لو قامت به الندوة سيكون هدية قيّمة للمجتمع والمؤسسات العلمية والتعليمية وذاكرة للمستقبل أيضاً، فحتى الآن لا توجد جهة مرجعية يمكن أن تتوافر فيها نسخ عن جميع هذه الأطروحات. دولة شقيقة وجارة مثل المملكة العربية السعودية لديها اليوم أكثر من 130 ألف طالب وطالبة مبتعثين للدراسة في 40 دولة تقريباً، وفي مختلف التخصصات، حيث ذكرت دراسة أكاديمية حديثة نشرها الإعلام السعودي أن أكثر من 45 في المئة من الطلبة الجامعيين يلتحقون ببرامج الدراسات العليا. وهناك مثلاً 1816 طالباً في الدراسات العليا داخل المملكة بجامعة الملك عبد العزيز في أحدث إحصائية لها، وهي واحدة من 33 جامعة سعودية أخرى، معظمها تقدم خيار الدراسات العليا. طبعاً المعادلة الرقمية غير واردة، فالفارق كبير عند المقارنة بالحجم السكاني للمملكة، لكننا نتحدث عن إستراتيجية واهتمام واستمرارية في مشروع حيوي يُعنى بالتنمية والاستثمار في الكوادر البشرية. كم عدد المبتعثين للدراسات العليا عندنا من الإمارات، وما أهم الجامعات التي يختارونها؟ وفي أي التخصصات؟ وكم عدد الذين يدرسون داخل الدولة؟ إحصائية لوزارة التعليم العالي نشرت قبل فترة تقول إن إجمالي عدد المواطنين والمواطنات الحاصلين على درجة الدكتوراه في الدولة طوال 15 عاماً (1996-2011)، بلغ 583 شخصاً. وحسب إحصاءات الوزارة على موقعها الإلكتروني فإن عدد المبتعثين في درجتي الماجستير والدكتوراه خلال ثلاث سنوات حتى عام 2010 بلغ 523 دارساً. السؤال المكمل والأهم هو: هل يمكن أن يتضاعف هذا الرقم خلال المرحلة المقبلة إذا توافرت فرص ثمينة كمبادرة حاكم الشارقة؟ وهل لهذه الكفاءات العالية مكان في جامعات الإمارات؟ وهل يستفيد سوق العمل من خبراتهم ودراستهم؟