كادت المهاترة أن تغري دعاة الفضائيات العربية وشيوخها، ولعلهم سيدلون بدلوهم، بعدما بلغ الجدل في المنافسة الانتخابية الأميركية حداً هستيرياً غير مسبوق. كان الحزب "الديمقراطي" أغفل ذكر الله عزَّ وجلَّ في مرجعيته الإيمانية، كما أسقط من برنامجه اللازمة القائلة إن القدس "عاصمة لإسرائيل"، وكأنها لم تعد ضرورية لحساباته الانتخابية. وعادت الإشارتان إلى البرنامج بإيعاز من أوباما المرشح لولاية ثانية، لكن بعد تنبيه من منافسه المرشح "الجمهوري" رومني، تنبيه لم يخلُ من توبيخ وتشنيع طالما أن الفرصة بدت ذهبية وسانحة. قد يبدو الأمر مستهجناً، فالهاجس الديني لا يقتصر على النقاش العربي المشتعل حالياً حول "المدني" و"الديني"، بل يكاد يصبح ظاهرة عالمية، حتى في المجتمعات التي رسمت حدوداً قانونية واضحة لما هو مدني وما هو ديني. ولكثرة ما توحي السياسة الأميركية بأنها متخففة من أي حمولة دينية، فإن المراقب الخارجي يميل إلى تخيل رجالها كما لو أنهم آلات مبرمجة، ناسياً أن الجماعات الدينية صارت قوة انتخابية يحسب لها حساب ولا يختلف جمهورها العريض كثيراً عن الجمهور الذي يرجِّح كفة "التيار الإسلامي" في بلدان التحولات العربية. وكما خيَّر الناخب المصري أخيراً بين مرشح "إخواني" وآخر "فلولي" وفقاً للتوصيف الشعبي الرشيق، فإن الأميركي يجد نفسه أمام مرشحين سيحكم أي منهما مدنياً إذا وصل إلى البيت الأبيض، لكن أحدهما "مورموني" دفعه الحزب "الجمهوري" إلى المنافسة رغم استياء الإنجيليين، والآخر لا ينفك خصومه يشككون في ديانته لأن ثمة "حسين" في وسط اسمه. لذلك استحق الإغفال في البرنامج الديمقراطي التساؤلات عن دوافعه. فقد عُرف لماذا جرى التصحيح والتعديل في النسخة الثانية، لكن لم يُعرف سبب الإغفال في النسخة الأولى علماً بأن الاستشهاد بالله مستوحىً من أولى العبارات في الدستور الأميركي، وهو كاد يرد "تلقائياً". قيل إن السبب هو "السهو"، وقيل إنه استغراق في العلمانية، أو جنوح نحو "اليسارية"، هو ما يفسره "رومني" بقوله إن "الديمقراطيين" أغفلوا ذكر الله "قصداً" لأن هذا الحزب "صار بعيداً عن التيار السائد" في المجتمع الأميركي. يحتاج المرشح "الجمهوري" لأصوات الإنجيليين فوجدها فرصة لمغازلتهم، مقدار حاجته إلى أصوات البيض الذين اصطفوا عام 2008 وراء جون ماكين، لكن سياسات جورج بوش والأزمة المالية التي ختم بها عهده أدَّت إلى تسرب أعداد منهم إلى جانب أوباما. ولما لم يكن اختيار "سارة بالين" مقنعاً لمنصب نائب الرئيس، فإن "رومني" جاء بمرشحه "بول رايان" بغية رصّ الصفوف البيضاء، وهي الكتلة التصويتية الأكبر. بقي لدى "رومني" رهان كبير آخر، أن يكسر ما يشبه "الاحتكار"، الديمقراطي لغالبية أصوات اليهود، فهؤلاء يصوتون للسياسات الداخلية طالما أنهم يضمنون الثوابت الاستراتيجية لمختلف الإدارات بالنسبة إلى إسرائيل. ورغم أنهم يدعمون جميعاً الدولة العبرية، فإنهم لا يصوتون وفقاً لإرشادها، ومع ذلك حقق "رومني" بعد رحلته إلى إسرائيل بعض التحسن في نسبة مؤيديه من اليهود. ثم، ها هو الخصم يرتكب "الخطأ" المرتقب، إذ خلا برنامج "الديمقراطيين" من "الاعتراف" بالقدس "عاصمة لإسرائيل". تصرف "رومني" كمن جاءته هدية من السماء. لكن هذا "الخطأ" لم يكن سهواً على الاطلاق، إذ شاءت تيارات عدة قوية داخل حزب أوباما توجيه رسالة لإسرائيل احتجاجاً على سلوك نتنياهو المتحدي للرئيس. وهذا ما عكسته أيضاً السخونة المرتفعة للسجال حول الخيار العسكري ضد إيران، إذ لم تبق ضغوط الابتزاز الإسرائيلي وراء الكواليس وإنما بلغت المحازبين. اضطر أوباما للإيعاز أيضاً بإعادة الاعتراف بالقدس "عاصمة لإسرائيل"، إلى البرنامج بالنسخة التي اعتمدت عام 2008، وتشير إلى الوضع النهائي للقدس تقرره المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وهو ما لا يشترطه "رومني" الآن، إلا أن المرشحين يعرفان أنهما يزايدان في مسألة مخالفة أصلاً للقانون الدولي ولقرارات الأمم المتحدة. ورغم أن الإدارات المتعاقبة تعاملت مع "العاصمة" على أنها أمر واقع إلا أنها حاذرت، كبقية الدول، نقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس. بإمكنها أن تحتقر القوانين الدولية وتعترف عملياً بهذه "العاصمة"، لكن بأي مصداقية ستحافظ عندئذ على دورها "راعياً" أو "وسيطاً" في التسوية السلمية؟