يتعاظم القول بأن "المقاومة ضد إسرائيل" تتعارض مع الأحداث التي انطلقت في سوريا منذ ما ينوف على العام ونصف العام، ويتكرس هذا القول في اتجاهين، الاتجاه الأول يقوم على القول بأن المقاومة المذكورة تمثل عملاً بطولياً مناهضاً لإسرائيل بمثابتها عدواً تاريخياً للعرب عموماً، وليس للفلسطينيين فحسب، فلقد اغتصب فلسطين الصهاينة بدءاً من عام 1948، وطردوا الشعب الفلسطيني منها بوصفه شعباً منتمياً - بالاعتبار التاريخي - إلى العروبة، ثم جاءت حرب 1967، التي أنتجت مزيداً من اضطهاد الفلسطينيين، وحتى الآن ترفض إسرائيل، الخروج من الأراضي التي احتلتها منذ عام 1967، أما الاتجاه الثاني فيقوم على التشهير بالثورة أو الانتفاضة السورية، انطلاقاً من أن ما يحدث تحت ذلك الإصلاح إنما هو عمل مراهقين مأجورين وعملاء وهذا عين الفضيحة. إن تلك الملاحظات تمثل في عقل الإنسان العربي وضميره ما أصبح حقائق لا يمكن نسيانها مع تقادم الزمن، ولا التخلي عما تعبر عنه، وفي قلب التاريخ العربي يبقى ذلك راسخاً لا يعني الأخذ به والتمسك به فضلاً لأحد العرب على غيره، ولا طريقاً للتفاخر به، فهو أمر أصبح "فطرياً" بالنسبة إلى أولئك، بل إن المنظّرين العرب السياسيين الداعين إلى إعادة الحقوق الفلسطينية إلى شعبها، يرون أن أهمية فلسطين بالنسبة إلى العرب لا تكمن في موقف سياسي أو آخر، وإنما هي (أي الأهمية) تأتي من أن فلسطين هي التي تمنح شعبها هويته الوطنية المرتبطة بعمق بهويته القومية. على ذلك النحو، فإن ما يفعله جموع من السوريين ومعهم بعض حلفائهم، حين يقفون في وجه دعاة الانتفاضة أو الثورة السورية الراهنة، اعتقاداً بأن المنتفضين أو الثوار في سوريا إنما هم "مجموعات من المسلحين الإرهابيين" و"السلفيين" و"المرتزقة" الذين تمولهم دول أجنبية، وبذلك أحدثوا خلطاً في المفاهيم السياسية كما في المواقف الكفاحية. ما يحدث في سوريا، إنما هو من أكثر الأمور طبيعية وواقعية وضرورية، وقد عبر الرجال والنساء في سوريا عن ذلك بشعارات رفعها حزب "البعث" العربي الاشتراكي وأحزاب أخرى سابقاً تشارك في "الجبهة الوطنية التقدمية" مثل الناصريين والشيوعيين والاشتراكيين، وأولئك الذين رفعوا شعارات التقدم والعدالة والمساواة منذ خمسينيات القرن الماضي، يعلنون (أو قسم منهم) أنهم هم الذين أسسوا لحركة التحرر العربية، ومنها حركة عدم الانحياز. وحين يكون الأمر على هذا النحو يتساءل المرء عما إذا كان التنكر لتلك الشعارات والأهداف هو الطريق، التي تقود إلى استمرار النظام السوري في الحكم، إن هؤلاء وأولئك يعلمون - من دروس أولية في التطور والتقدم التاريخي - أن المجتمعات البشرية ليست قوالب ثابتة مطلقة، لا تنمو ولا تتغير ولا تعيش أحوالاً من التحول، وإن من يرون هذا الرأي من أولئك السابقين واللاحقين إنما يكونون قد أعلوا من شأن الثبات على حساب الحركة التاريخية، لأنهم اكتشفوا (الآن عملياً وحين ظهرت حالة الضرورة لتغيير السلطة)، أي الحالة التي كانوا يتحدثون عنها في مؤتمرات أحزابهم وأدبياتهم الحزبية، والفرق بين الحالتين يبرز في أن هذه الحالة الأخيرة تظهر في أحوال اجتماعية واقتصادية وسياسية لم يعد استمرارها محتملاً، وفي أن الحالة الأولى كانت تظهر على ألسنة من كان على رأس السلطة، دون أن يلجأ إلى الاستجابة للتغيير والإصلاح والتحديث. ألم تكن شعارات الثورة أن الانتفاضة الحالية موجودة ضمناً في برامج وكلام وخطط أولئك، لكن على الورق، وحين لم يعد ممكناً إسكات القوى التاريخية الحية، أصبحت تلك الشعارات خطرة، نعم، الثورة هي هنا المقاومة.