كان "علي العميم" في بحثه المنشور في مجلة المجلة (1575: سبتمبر 2012) باحثاً مستقصياً وناقداً يطرح الأسئلة المغيّبة في جدالٍ جديدٍ ومثيرٍ مع الباحث الأميركي حامد ألجار حول سيد قطب وترجمة ألجار لكتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام". سيد قطب هو منظّر الإسلام السياسي الأول والأخطر، ومفكره المتّبع، ومليكه المتوّج. معاصروه عالةٌ عليه ولاحقوه مجرّد أتباعٍ مؤمنين، يتخلّقون حسب الأماكن والأزمان، والمعطيات والظروف، ولكنّهم مخلصون في الاتباع مؤمنون بالرسالة. لقد خلق سيّد قطب -متأثراً بواقعه وشخصيته وسيرته- واقعاً مثالياً لعصر بداية الإسلام، وقد أثر عليه في ذلك جهله المعروف بالعلوم الشرعية التفصيلية كعلوم القرآن وعلوم الحديث وعلوم السيرة ونحوها، ما حجب عنه وهو الأيديولوجي الصارم والثائر الهادر كل الأطروحات الرصينة والجدالات العلمية في قراءة تاريخ البعثة وعوالم الإسلام الأول، التي لو اطّلع عليها لخفّفت من حدّة طرحه والوثوقية العقائدية التي كان ينطلق منها. أحسب أنّه يمكن اعتبار مشروع سيّد قطب في أحد جوانبه مشروعاً لـ"تغريب الإسلام" بمعنى أنّه وهو المسكون بالثقافة الغربية ومناهجها، والسياسات الغربية وتأثيراتها والجاهل بالعلوم الإسلامية كانت تسيطر عليه دائماً رغبةٌ جامحةٌ أن يخلق إسلاماً جديداً شبيهاً بالغرب وأيديولوجياته وقوّته ولكنه معادٍ له في الآن ذاته، على طريقة تفرع بعض المذاهب الكلامية في الإسلام حيث المرجئة خرجت من رحم الخوارج وأمثال ذلك في التاريخ. لقد بنى سيّد قطب رؤيته للإسلام الجديد بناء على الوعي بالضدّ، فهو يتحدث مثلاً عن المجتمع الإسلامي الذي يقسمه كعادته إلى قسمةٍ حديةٍ بين اثنين فقط، والتي يستخدمها في المفاهيم الكبرى كالحاكمية والجاهلية، ويفعل الأمر عينه في الحديث عن الأمة والمجتمع والمنهج وغيرها، فوعيه الواسع بالمجتمعات السياسية الكبرى في وقته يحولها مباشرةً إلى ضدٍ ويبحث من خلالها وبها عن تصوره الخاص للإسلام. ويجب هنا أن نتساءل، هل خلق سيد قطب إسلاماً خاصاً به؟ غير مسبوقٍ إليه؟ وحين تبدو الإجابة بالإيجاب هي الأقرب للحقيقة والواقع فذلك يطرح أسئلةً أخرى، لماذا انتشر هذا الخلق "القطبي" لإسلامٍ جديدٍ؟ وقد سبقه لمثله آخرون، فلماذا نجح وفشلوا؟ إن شيئاً من الجواب يكمن في السياق التاريخي، والواقع المعيش سياسياً وثقافياً ومجتمعياً في تلك اللحظة التاريخية، وطبيعة الخطاب الصارمة، بالإضافة إلى وجود تنظيمٍ حركي قوي هو جماعة الإخوان المسلمين دعم تلك الرؤية ووظفها بشتى الوسائل ولم يزل يعيد إنتاجها وترويجها والتسويق لها. سيّد قطب هو أكثر الغائبين حضوراً في المشهد السياسي في دول "الإخوان" الجديدة بالعالم العربي، فقد تحدّث خيرت الشاطر مؤخراً عن مشروع النهضة، وذكر أنّ كل ما كتب سابقاً عن هذا المشروع هو مجرّد رؤى عامة تحتاج لإعادة صياغة وتطوير (مقطع يوتيوب)، وقد حاول "الإخوان" من قبل تقديم عدة رؤى لمشروع متكامل ورؤية سياسية شاملة، 2007 مثلاً، ولكن يتضح اليوم أنّ تلك المشاريع قديمها وحديثها إنما تندرج تحت رؤية سيد قطب التي انتهى إليها حول مشروع الإسلام السياسي، والتي صار يحذّر فيها دائماً من الانشغال بمشروع مكتمل قبل التمكين، وأن ذلك ملهاةٌ للدعوة يجب ألا تنشغل بها، وستجد طريقها بعد التمكين لذلك، وقد كان قديماً "يطالب "الإخوان" أن يقدّموا برنامجاً سياسياً اقتصادياً (واضحاً ومحدداً) أيام أحداث "القنال" في يناير 1952 ليعود بعدها فيحذر (الجماعة المؤمنة) من أن تنزلق إلى الفخ الذي ينصبه لها خصومها بسؤالها عن تنظيم المجتمع" (محمد حافظ ذياب، 134). كما قدّم الرئيس المصري في خطابه ليلة القدر مفهوماً عن الجهاد بأنّه إنّما جاء ليمنع الحوائل بين الناس وبين حرية الاعتقاد، وهو مفهوم "قطبي" أصيلٌ لتبرير الجهاد الحربي والغزو، وفي حديثه عن "التمكين" كذلك، إنّ حضور سيد قطب بقوّةٍ في المشهد السياسي المعاصر يستدعي ضرورة البحث والجدل حول خطابه، كما أنّ محمد بديع المرشد الحالي للجماعة كان عضواً فاعلاً في تنظيم 1965 الذي كان يقوده سيّد قطب. سيّد قطب لم يلتحق بـ"الإخوان" إلا في فترةٍ متأخرةٍ من تاريخهم، وذلك بعد تخليه عن الضبّاط الأحرار، ولم يلبث أن سجن منذ 1954 إلى 1965 فمن أين اكتسب سيّد الخبرة الحركية في بناء التنظيمات فكرياً وعملياً؟ يبدو الجواب واضحاً في عشر سنواتٍ مع محمد يوسف هوّاش. محمد هوّاش "إخواني" عتيدٌ، كان من أعضاء التنظيم الخاص، وبرع في بناء التنظيمات الإخوانية الفرعية من الصفر أكثر من مرةٍ، وتحت ملاحقات أمنية، عاش مع قطب عشر سنوات في مصحة السجن وخرج معه وكان نائبه في تنظيم 65 وعلّق معه على نفس المشنقة. يذكر محمود عزت نائب المرشد الحالي وأحد عناصر تنظيم 65 أنّ هوّاش "كان رفيق سيد قطب طوال فترة سجنه، وكان الأستاذ يرحمه الله يعرض عليه كثيراً مما يكتب، وأحياناً يأخذ بوجهة نظره، فيعدّل"، كما أشار توفيق الواعي إلى أن "سيد قطب كان يعتبر هوّاش شريكه في كل ما وصل إليه من فكر" (موسوعة شهداء الحركة الإسلامية في العصر الحديث، ص206). وتشير حميدة قطب إلى أن "الكثير من أفكار محمد يوسف هوّاش قد تسللت إلى عقل سيد قطب وقلبه، ونقلت عن سيد أنه تأثر بهوّاش كثيراً خاصة فيما كتبه في كتابه الشهير معالم في الطريق" (رحلتي مع الأخوات المسلمات، فاطمة عبدالهادي ص51). ولكن مالذي استفاده قطب تحديداً من هوّاش؟ تقول فاطمة وهي زوجة هوّاش "ويجزم الأستاذ أحمد عبدالمجيد والذي كان معتقلاً معهما(حكم عليه بالإعدام في تنظيم 65 ثم خفف الحكم) أن سيد قطب استفاد من هوّاش في خطه الحركي وفي الإلمام بسيرة أحوال جماعة "الإخوان" المسلمين والدروس المستفادة منها ... ويروي عبدالمجيد أنّ هوّاش قال له ذات مرةٍ وهم في طوابير السجن الحربي: إن كل بابٍ وكل عبارةٍ في كتب سيد أعرف متى كتبت وأعرف مناسبتها ومناقشاتها حتى وصلت بصورتها التي ظهرت بها". نقل "العميم" في بحثه معلومةً مثيرةً عن فؤاد علاّم تفيد بأنّ كتاب "دعاة لا قضاة" ليس للهضيبي بل أن وراءه أمن الدولة، وذكر أنّه سيخصص مقالةً مستقلةً يذكر فيها شواهد تثبت ذلك، وينبغي له، فالأسئلة التي تثيرها هذه المعلومة بحاجة لإجابات. عبدالله بن بجاد العتيبي