قصة الباكستانية المسيحية “ريمشا مسيح”، واتهامها بحرق أوراق من القرآن الكريم، هي مثال لآلاف الوقائع المماثلة التي كانت الأطماع وأهواء النفوس وراءها. فبعد أن قضت ثلاثة أسابيع في السجن أصدر القضاء الباكستاني حكم براءتها، ثم أُطلق سراحها السبتَ الماضي، بعد أن أثبتت شهادات مسلمين أنها بريئة، وأن إمام المسجد كان كاذباً في اتهامه لها بعد أن قام هو نفسه بدس أوراق من المصحف مزقها وخلطها بأوراق كانت الصبية ذات الثلاثة عشر عاماً قد أحرقتها ورمتها في القمامة. الغريب في القصة أن دوافع المؤذن لم تكن غيرة على حرمات الله، بل تدور الشكوك حول تجار العقار الذين كانوا يطمحون إلى أن هذه الحادثة يمكن أن تدفع العوائل المسيحية التي تسكن في مشارف العاصمة إسلام آباد إلى ترك الحي خوفاً من ردود الفعل والاعتداءات من قبل المسلمين، حيث تؤكد بعض المصادر أن أسعار العقار في المنطقة التي تقطنها عوائل من الأقلية المسيحية التي تعيش بينها “ريمشا مسيحي”، قد ارتفعت كثيراً مقارنة بعام 2009 ، حين قدمت هذه العوائل واستوطنت برعاية حكومية بعد أن كانت هُجِّرت من أماكنها إثر صدام طائفي. الجميل فيما حدث هو أن قصة هذه الفتاة البائسة الفقيرة التي تعاني من صعوبة في التعلم، قد حشدت تعاطفاً كبيراً من علماء دين مسلمين في باكستان، وعلى رأسهم رئيس مجلس العلماء، إضافة إلى شخصيات سياسية ورموز اجتماعية بارزة ومؤثرة، كما أنها فتحت الباب لنقاش القضية من أساسها، وهي عقوبة التجديف ومدى مطابقتها لمبادئ العدالة والرحمة. فقد استُغِل هذا القانون مرات عديدة لتصفية الحسابات وإثارة الأحقاد الطائفية والدينية، والمضحك المبكي أن إمام المسجد الكاذب نفسه، هو الآن محبوس بتهمة التجديف واحتقار الدين وقد يقضي عقوبة بالسجن مدى الحياة. مايدفع للتساؤل والدهشة، هو كيف يمكن أن يُلقى القبض على صبية دون الرابعة عشرة، وتوجه لها تهمة ازدراء الإسلام، وتخضع للحبس أسابيع، في أجواء تزلزل قلوب الرجال الأشداء، وكأن الإسلام لايقيم أي اعتبار لعامل العمر والجهالة ومظنتها، حتى ولو ثبت أن الصبية فعلت ذلك عمداً. أخطر مايمكن أن يقع هو أن لايرى المسلمون وغيرهم من أصحاب الديانات إلا الجانب الصارم والمخيف عندما يقع تماس أو تجاوز. فالحكمة ليس ما نفعله ونحن راضون ومطمئنون في حال الوئام والسلام، بل هي مايمكن أن نفعله حينما تكون النفوس مشحونة، والأهواء تعبث بالعقول، والنفوس والأطماع تفتك بالأرواح، وتسمم الأجواء. عند النظر إلى العقود الثلاثة الماضية سنجد قصصاً عديدة ووقائع محزنة كشفت أسوأ مايمكن أن يقع وأبشع مايمكن أن نراه حينما تعبث الحميَّة بالعقول وتهلك الحرث والنسل، وتخلف آلاماً عميقة لايمكن شفاؤها، إلا بعد عقود من السنين يكون فيها كل مابني في عهود السلام والوئام والتآلف خراباً يباباً. إن أقدر الناس على تغيير هذه الألغام المتفجرة هم المسلمون أنفسهم ومفكروهم الحقيقيون الذين يمكنهم أن يقدموا أجلى صور الرحمة والحب والعفو والتجاوز، ويقودوا أبناء دينهم من الأجيال الجديدة الطامحة إلى العيش بسلام وتفاهم وتواصل مع كل التنوع الذي يحيط بهم، فأسوأ مايمكن أن تحمله أمم الأرض عنا، أن نظهر للعالم وكأننا أمة لاتهدأ براكينها، ولا يخف غضبها، ولا تنضج أبداً، رغم المسلات والتاريخ، وتبلغ الحساسية بنا حداً نحاكم فيه الأطفال ونتربص بهم الدوائر. منصور النقيدان ilovereform@yahoo.com