التصوف هو أحد العلوم العقلية النقلية في الحضارة الإسلامية، بالرغم من اعتماده على منهج الذوق، مع علوم الحكمة وعلم أصول الدين وعلم أصول الفقه. وهو العلم الذي اتحد مع العقائد الأشعرية وأصبحا معاً المكون الرئيسي للحضارة الإسلامية منذ العصر المملوكي التركي حتى حكره الإصلاح الديني في العصر الحديث. أخذ الأتقياء الأطهر صفاً بينما أخذ أهل الدنيا صفاً آخر. ولما لم يستطع الأتقياء تغيير العالم والدفاع عن الحق، وفي نفس الوقت رفض الدخول في مساومات مع أهل الدنيا. انزوى الاتقياء ، وارتدوا إلى النفس لإنقاذها بعد أن استعصى عليهم إنقاذ العالم. وتم خلق عالم روحي باطني جديد تعويضاً عن فقد العالم الخارجي. وتم تأويل القرآن على هذا الأساس. تحولت الهزيمة الخارجية إلى نصر داخلي، وتحول القهر الخارجي إلى حرية داخلية. واستمر التصوف يمثل رد فعل روحي على حياة البذخ والترف في العالم الإسلامي. بالرغم من ازدهار الحياة العقلية في القرن الرابع الهجري إلا أنه متى أتى القرن الخامس حتى تعددت الحقائق، وتكاثرت المناهج، واحتار الناس في الاختيار بينها بعد أن تكافأت الأدلة بين الشيء وضده. أصبح العقل والطبيعة مصدرين للمعرفة على حساب الوحي. وتحول الدين إلى مجموعة من الشعائر الخارجية بلا حياة باطنية. وصل العالم الإسلامي إلى حد من الغنى والترف بحيث أصبح المال مطلباً للجميع. وكان الصليبيون قد وصلوا إلى الشام، وسقط بيت المقدس. فأراد الغزالي أن يرد الناس إلى الدين حماية لهم من الدنيا. ولقد تغيرت الظروف الآن، بل نشأت ظروف مضادة مثل سيادة الرأي الواحد، وأولوية الإيمان على العقل، وفشل التنمية للمجتمعات الإسلامية، وحاجة الناس إلى سلوك في الدنيا، وتحرير الأرض المحتلة غاية للمقاومة. قضايا الأمة الرئيسية الآن سبع: تحرير الأرض من الاستعمار الخارجي، وتحرير المسلمين من القهر الداخلي، وتحقيق العدالة الاجتماعية لحل التفاوت بين الفقراء والأغنياء، وتحقيق التنمية ضد مظاهر التخلف، وتوحيد الأمة ضد التجزئة، وتأكيد الهوية الوطنية الإسلامية ضد التغريب والتبعية، وتجنيد الجماهير ضد السلبية واللامبالاة. فهل يمكن للتصوف المساهمة في حل هذه القضايا والدخول في تحديات العصر؟ هل يمكن تحويل أيديولوجيا الصراع الداخلي إلى أيديولوجيا للمقاومة الخارجية؟ هل يمكن الانتقال من الفرد إلى المجتمع، ومن النفس إلى العالم؟ لقد استطاعت الطرق الصوفية في التاريخ الإسلامي الحديث القيام بمثل هذا التحول مثل السنوسية في ليبيا، والمهدية في السودان؟ هل يمكن إعادة بناء التصوف كله لصالح قضايا العصر؟ هل يمكن الانتقال من "إحياء علوم الدين" إلى "إحياء علوم الدنيا"؟ إذا كان التصوف طريقاً إلى الله يمر بثلاث مراحل: مرحلة أخلاقية، ومرحلة نفسية، ومرحلة ميتافيزيقية فهل يمكن إعادة بناء كل مرحلة بحيث يساعد التصوف على تنمية العالم الإسلامي وتطوره؟ يمكن ذلك عن طريق التحول من الروح إلى البدن، ومن الداخل إلى الخارج ، ومن الأخلاق الفردية إلى الأخلاق الاجتماعية، ومن التأمل الباطني إلى الفعل الخارجي، ومن الطرق الصوفية إلى الحركات الاجتماعية والسياسية. فمشاكل الشعوب الإسلامية الآن في البدن، وفي المجتمع، وفي العالم، ومع النظم الاجتماعية والسياسية وليست مع الروح أو الفرد أوالقيم أو التأمل أو حلقات الذكر الصوفي. وفي المرحلة النفسية الأخلاقية، يتحول التصوف من أعمال الجوارح إلى أعمال القلوب، وينتقل الصوفي فيها من مقام إلى مقام، ومن حال إلى حال. هل يمكن تحويل هذه المقامات والأحوال السلبية إلى مقامات وأحوال إيجابية؟ فالتوبة ليست عملاً فردياً بل رغبة في التغير الجماعي، والصبر ليس انتظاراً بلا حدود بل عملاً وتمهيداً لوقت محدود، والشكر ليس رضاء بالقليل بل استرداد للحق كله، والفقر ليس فضيلة للفقراء بل دعوة للأغنياء، والزهد ليس مطلباً للمعدمين بل واجب على الأثرياء، والتوكل ليس تركاً للأسباب بل سيطرة عليها، والرضا ليس سكوتاً على الظلم بل غضب ومطالبة بالحق، والصمت ليس إيثاراً للسلامة بل جهر بالقول، والعبودية ليست إحساساً بل كراهية للظلم والفساد. أما الأحوال، فإنها يمكن أن تتغير أيضاً من الصراع الداخلي وجدل العواطف إلى صراع خارجي وجدل اجتماعي. فالخوف والرجاء، ثقة بالنفس وأمل لجماعات المعارضة، والقوة والصحوة، وعي وانتباه للمقاومة، والهيبة والأنس شجاعة وترابط يبن المناضلين، والقبض والبسط فر وكر للمقاومة، والفرق والجمع للجيوش ولتوحيد الأمم، والغيبة والحضور للآمال والغايات، والمحو والإثبات للأعداء والأصدقاء، والستر والتجلي للحقائق والمعلومات، والبعد والقرب للأهداف والمقاصد، والفقد والوجد للإمكانيات، والفناء والبقاء للجنس البشري. وإذا كان غاية الصوفي في النهاية هو الفناء في الله، فهل يمكن تحويل هذا البعد الرأسي إلى بعد أفقي، وأن تكون الغاية إلى الأمام وليس إلى أعلى؟ هل يمكن الانتقال من المقامات الرأسية إلى مقامات أفقية، والتحول من البعد الإلهي إلى البعد التاريخي؟ هل يمكن أن تتحقق الوحدة في هذا العالم وليس خارج العالم، بالفعل وليس بالخيال؟ هل يمكن إقامة تأويل جديدة يسمح القرآن به طبقاً للظروف النفسية والاجتماعية للأمة الإسلامية الآن؟ إنّ تحول التصوف القديم إلى عملية تنمية شاملة فعلية للمجتمعات الإسلامية حتى تتطور من خلال تراثها الخاص يحفظها من الوقوع إما في المحافظة الدينية التقليدية أو العلمانية الغربية الحديثة، وتحقق الوحدة الثقافية في الأمة بدلاً من ازدواجيتها الحالية.