صدر للكاتب والصحفي البريطاني جونثان فينبي مؤخراً كتاب جديد حول سيرة الرئيس الفرنسي شارل ديجول بعنوان "الجنرال"، كتاب لا يقتصر على سرد قصة الرجل الذي أسر مخيلة الناس، ولكنه يرصد أيضاً مسار دولة كبيرة رفضت الاستسلام لفقدان الأهمية الاستراتيجية التي تمتعت بها ذات يوم. لقد كان ديجول مهماً لأن بلده ظل يتراجع. فمن الإذلال الذي تعرضت له على يد بروسيا عام 1871، إلى الإنهاك الذي أصابها في العشرينيات والثلاثينيات، كانت قوة فرنسا ومكانتها تتراجعان باطراد، وهو تراجع توجه استسلامها للنازية في عام 1940. واستمرار تدهور "الجمهورية الرابعة" في وقت أصبح فيه العالم يتحدث الإنجليزية بلكنة أميركية. وهنا يأتي دور ديجول الذي يقول عنه زميل له من الأيام الأولى في الجيش: "كان متميزاً، ليس لطول قامته، وإنما لحجم الأنا لديه والذي كان يتوهج من بعيد". وبطول يبلغ 192 سنتمتراً، كان من الطبيعي أن يرى ديجول أبعد من معاصريه. فبينما انزوت فرنسا وراء خط ماجينو بعد الحرب العالمية الثانية، دعا ديجول إلى أسلوب الهجوم الذي استعملته جيوش هتلر بفعالية مدمرة. وعندما أعادت ألمانيا النازية تسليح نفسها، انتقد ديجول سياسة التهدئة باعتبارها مهلكة. وبعد بسط هتلر لسيطرته على فرنسا في ظرف أسابيع، فر ديجول إلى لندن وكتب: "كان علي أن أحمل مصير البلاد على عاتقي". كان هتلر العدو الذي على الضفة الأخرى من القناة، لكن تشرشل كان العدو الجار. إذ كان، ومعه روزفيلت، بالكاد يطيق سلوك الجنرال ومواقفه. وفي هذا السياق، كتب أحد معاوني تشرشرل: "لقد ضاق رئيس الوزراء به ذرعاً". ولفت آخر إلى أن حتى مقر القوات الفرنسية الحرة "أخذ يمل مثلنا من المزاج المنفلت لقائدهم وافتقاره للحكم المتوازن". وذات يوم سأله أنثوني إدن، وزير الخارجية البريطاني: "هل تعلم أنك من بين جميع الحلفاء الأوروبيين تسببت لنا في أكبر قدر من الصعوبات؟"، فابتسم ديجول وقال: "لا أشك في ذلك، ففرنسا قوة عظمى". ومع اقتراب هزيمة ألمانيا، عاد الجنرال عودة الأبطال إلى باريس، لكن سرعان ما تبين أن الرجل والبلاد دون التوقعات، حيث كان ديجول يرغب إما في الحكم، أو في التقاعد. وبعد بضعة أيام فقط كرئيس للحكومة، قال مستاءً: "لقد طفح الكيل"، وبعد وقت قصير استقال على نحو مفاجئ، وانزوى في مقاطعة كولومبي خلال اثنتي عشرة سنة التالية. لكن في غضون ذلك كان بلده يغرق؛ وقد تعاقبت عليه 24 حكومة. كما خسرت فرنسا الهند الصينية والسويس والجزائر، وكان مرغماً على مشاهدة حفدة وبروسيا، وهم يستعيدون الهيمنة الاقتصادية وينهضون ليصبحوا "سيف" أميركا في أوروبا. وبحلول 1958، مع بداية حرب الجزائر، كانت الجمهورية الرابعة جاهزة للسقوط، وهو ما حدث على يدي الجنرال بالضبط. فقد ترأس ديجول الجمهورية الخامسة خلال الأحد عشر عاماً التالية، وعبر مراحل مختلفة من هذه الفترة، استمال وتحدى "الأنجلوسكسونيين"، والألمان الغربيين، والسوفييت، والصينيين، في إطار السعي للتأثير والنفوذ. وبينما انهارت مخططاته الكبيرة، لجأ إلى أسلوب كلاسيكي من أيامه في لندن: زيادة القدرة على الإزعاج. وفي هذا السياق، كتب فينبي يقول: "إن استعداده للذهاب إلى الأطراف خلق انطباعاً مبالغاً فيه بالقوة"، قوة لم تكن فرنسا تملكها في الواقع، بغض النظر عن القنبلة الذرية التي امتلكتها عام 1960. وفي مايو 1968، وقعت ثورة الطلبة، حيث خرج 10 ملايين طالب وعامل إلى الشوارع للاحتجاج. وفي غمرة الثورة، أعلن بومبيدو، رئيس وزراء ديجول، أن "الجنرال لم يعد موجوداً، ديجول مات". بعدها عاد الجنرال إلى الانزواء في مقاطعة كولومبي. وتلك في الأثناء، احتشد الأنصار في باريس، فعاد الجنرال، حيث فاز بأغلبية كبيرة في الانتخابات البرلمانية في يونيو 1968. لكنه لم يعد منقذ البلاد مثلما كان في 1940 و1958. وعندما دعا إلى استفتاء حول إصلاحاته خسر، وأعلن عن استقالته في اليوم نفسه. وفي نوفمبر 1970، وقبيل عيد ميلاده الثمانين، توفي في كولومبي. محمد وقيف الكتاب: الجنرال: شارل ديجول وفرنسا التي أنقذها الناشر: سكاي هورس بابليشينغ تاريخ النشر: 2012