إذا لم تكن تعرف إلى أين أنت ذاهب فلن تصل إلى هناك. هذه الحكمة المتهكمة تلخص وضع برامج الفضاء الأميركية. نعيُ نيل آرمسترونج كان بمثابة رثاء عصر الفضاء الذهبي. فهذا الرائد الأول في الهبوط على سطح القمر حقّقَ في 21 يوليو 1969 أقدم أحلام البشر بالسفر بين الكواكب، ومنح الملايين من معاصريه امتياز مشاركته في خطوته المشهورة "هذه خطوة صغيرة لإنسان فردٍ وخطوة عملاقة للبشرية". ولم تخطر ببال 11 رائداً أميركياً ساروا في إثر آرمسترونج على سطح القمر أن مأثرتهم لن تتكرر بعد آخر رحلة نهاية عام 1973، وما تصوروا أن وفاته ستصبح مناسبة لطرح التساؤلات حول مردود الرحلات الفضائية المأهولة، وجدواها. مكوث آرمسترونج على سطح القمر الذي استغرق ساعتين و19 دقيقةً، جعله أسطورةً. إلا أن اقتصار حضور مأتمه على عدد قليل من المقربين إليه، وحرص أسرته الشديد على عدم حضور الصحافة، يعبّر عن شخصيته الحقيقية، "البطل الأميركي رغم أنفه"، حسب بيان الأسرة. وفي أكثر العصور احتفاءً بالمشاهير، نأى آرمسترونج بنفسه عن أن يصبح "من المشاهير"، وفضّل دائماً أن يُعتبر "أستاذاً جامعياً معتكفاً على عمله في تدريس الهندسة". وكأن السماء استجابت لدعوة الأسرة عقد يوم عام للصلاة عليه الأربعاء القادم، والذي يصادف ما يُسمى "القمر الأزرق"، وهو ظهور القمر مرتين في شهر تقويمي واحد. "جاء رواد الفضاء بالسلام"، كانت العبارة على اليافطة التي وضعها آرمسترونج على سطح القمر. وآرمسترونج ينتمي إلى جيل الرواد في ستينيات القرن الماضي الذين كانوا يتطلعون أبعد من السباق الفضائي، ويدعون إلى توقيع اتفاقية للفضاء الخارجي تعلن القمر "مُلكاً للبشرية، وأن يستخدم للأغراض السلمية فقط". ويعارض ذلك حالياً اليمين المحافظ الصاعد في السياسة الأميركية. وفي آخر حديث صحفي قبيل وفاته، ندَبَ آرمسترونج أربعين عاماً ضائعة منذ توقف الرحلات المأهولة إلى القمر، وانتقد ضعف وكالة الفضاء "ناسا" في الصراع الدائر بين البيت الأبيض والكونجرس، وعبّر عن حزنه لأن تصبح "ناسا" التي "كانت واحدة من أنجح الاستثمارات في حفز الطلاب لتحسين أدائهم وبلوغ كل ما يستطيعون بلوغه، (لعبة شطكوك) جيئةً وذهاباً بين طرفين يحاولان جلبها إلى ما يعتقد كلٌ أنه الخط الصحيح". وهكذا بقي آرمسترونج حتى النهاية، "المعتكف"، حسب بيان النعي الصادر عن الرئيس الأميركي. وكان "الاعتكاف" سبب اختياره لأول من يهبط على سطح القمر، بدلاً من كابتن المركبة القمرية أدوين ألدرين الذي كان مقرراً أن يتولى ذلك. معلومات منشورة بعد وفاته تكشف أن "ناسا" أدركت مع اقتراب موعد الرحلة أن أول من يخطو على سطح القمر سيصبح شخصية خالدة في نظر الجمهور، وخشيت أن لا يكون ألدرين مناسباً، بسبب شخصيته اللامعة، وجرأته، كعالم رياضيات، في التصريح، واستعداده الدائم لتحدي السلطة وعدم الاتفاق معها. وبدا آرمسترونج، "الرزين"، أفضل لهذا الدّور. وقد أسدل ستار الكتمان على القضية بسبب الانضباط العسكري للرحلات الفضائية، لكن تفضحها الصورة الوحيدة لآرمسترونج على سطح القمر، والتي التقطها بنفسه في انعكاس وجهه في خوذة ألدرين، الذي امتنع عن التقاط صورة آرمسترونج كما كان مقرراً! موازنة "ناسا" التي بلغت نحو 4 في المئة من الموازنة الفيدرالية في ستينيات القرن الماضي انخفضت حالياً إلى 0.5 في المئة. ويبدو إنجاز أميركا في إرسال رواد إلى القمر بالنسبة للأجيال الحالية مماثلاً لبناء المصريين الأهرامات، "بواعث كليهما غريبة". يذكر ذلك مارتن رِيس، رئيس علماء الفلك في بريطانيا. ويعتقد رِيس الذي يُدعى "الفلكي الملكي"، أن إرسال مركبات فضائية مأهولة فقد بريقه. "وبعد أربعين سنةً لا يمكن أن يبدو ملهماً إرسال رواد على المكوكات الفضائية لمجرد أن يدوروا حول الأرض والمحطة الفضائية العالمية". ومن الحماقة، حسب رِيس، "الاعتقاد بأن الهجرة إلى الفضاء تُقدم ملاذاً طويل المدى من مشاكل الأرض. فلا وجود لأي بيئة ملائمة للحياة في أي مكان من المنظومة الشمسية". والاختلاف بين ورشة المركبات الفضائية وصورتها في عيون الناس، كالفرق بين المطبخ ومائدة الطعام الشهية. "تذوّقتُ" ذلك عندما قمت في أبريل 1995 بتغطية ميدانية لإطلاق ساتل "إنمارسات 3" من كيب كانيفرال في فلوريدا، حيث أطلقت سلسلة مركبات "أبولو" التي حملت الرواد إلى القمر. قضّيت يومين في "مركز السيطرة" بانتظار "نافذة الفرصة" التي تضمن أحوالاً جوية وتقنية ملائمة لإطلاق مركبة تكلف عشرات الملايين من الدولارات. وعندما رفع بركان اللهيب الصاروخ الحامل للمركبة، ركضتُ خارج "مركز السيطرة" إلى الشرفة لأرى بعيني منصة الإطلاق، التي تبعد نحو كيلومترين، وعدتُ أهرول خائباً أشارك ملايين الناس حول العالم رؤية المشهد على الشاشة! ساتل "إنمارسات 3" دشن عصر أجهزة الجيب للاتصالات الفضائية، ولا ينكر "الفلكي الملكي" اعتماد سكان الأرض على التكنولوجيا الفضائية في الاتصالات، والأرصاد الجوية، والمسح الجغرافي، والاستدلال على المواقع ومئات بل آلاف الخدمات التي تقدمها تكنولوجيا الفضاء، بما في ذلك إرسال مقالتي هذه عبر أقمار الاتصالات إلى صحيفة "الاتحاد" التي تضعها، عبر الأقمار أيضاً، في متناول قراء الطبعة الإلكترونية للصحيفة حول العالم، وتحفظها أبد الدهر في "الفضاء السبراني". ولا تحتاج مليارات التبادلات الفضائية التي تحدث كل ساعة إلى رواد، حسب "الفلكي الملكي". وهذا هو الذي يوجع القلب. فقد مرت في أبريل الماضي سنوية وفاة عالم الفضاء اللبناني الأصل مصطفى شاهين الذي عمل نصف قرن في "مختبر الدفع النفاث" على تطوير وإطلاق المركبات غير المأهولة. وصمّمَ شاهين في المختبر التابع لوكالة الفضاء "ناسا" المسبار الفضائي لرصد دورة الأمطار في الطبيعة، والذي حقّق حسب "وكالة الإرصاد الجوي والمحيطات" الأميركية، "زيادةً لا مثيل لها في تحسين التوقعات الجوية". وأتاح ساتل شاهين، الذي يواصل الدوران حول الأرض حتى اليوم التنبؤ المبكر بحركة الرياح والعواصف والأعاصير المدمرة وتوفير مليارات الدولارات وحَفظ ملايين الأرواح. "أو كي، لا بأس أن نأتي بصخور القمر يا حبيبي، لكن بعد أن يجد الجميع ما يأكلونه". استشهدتُ بهذه الأغنية الأميركية بمناسبة الاحتفال عام 1989 بمرور عشرين عاماً على هبوط آرمسترونج على سطح القمر. وأعدتُ إلى الأذهان انتقاد المفكر الاقتصادي الأميركي جون كينيث غالبرايث "عقدة الإنجاز التكنولوجي التي تفسر عظمتنا في تكنولوجيا الفضاء وبؤسنا في حل مشاكل الفقر". وذهبتُ مع الفيلسوف وعالم النفس كارل جوستاف يونج حد اعتبار الإنجاز التاريخي "مجرد هروب من النفس وتجنب مواجهتها، لأنه من السهل علينا الذهاب إلى القمر أو المريخ بدلاً من أن نتغلغل في وجودنا ذاته".