جاءت فكرة حركة عدم الانحياز بعد إرهاصات الحرب العالمية الثانية، وزيادة آثار الحرب الباردة بين المعسكرين: الشرقي (الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو) والغربي (الولايات المتحدة الأميركية وحلف الناتو). وحُدد أهم أهداف الحركة في النأي بأعضائها عن الدخول فيما يدور بين المعسكرين والامتناع عن ممالأة طرف ضد الطرف الآخر. وخلال مؤتمر "باندونغ" عام 1955 تبلورت المبادئ التي حكمت الحركة وهي كالتالي: 1- احترام حقوق الإنسان الأساسية، وأهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة. 2- احترام سيادة جميع الدول وسلامة أراضيها. 3- إقرار مبدأ المساواة بين جميع الأجناس، والمساواة بين جميع الدول، كبيرها وصغيرها. 4- عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى أو التعرض لها. 5- احترام حق كل دولة في الدفاع عن نفسها، بطريقة فردية أو جماعية، وفقاً لميثاق الأمم المتحدة. 6- عدم استخدام أحلاف الدفاع الجماعية لتحقيق مصالح خاصة لأي من الدول الكبرى، وعدم قيام أي دول بممارسة ضغوط على دول أخرى. 7- الامتناع عن القيام، أو التهديد بالقيام، بأي عدوان، والامتناع عن استخدام القوة ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأية دولة. 8- الحل السلمي لجميع الصراعات الدولية، وفقاً لميثاق الأمم المتحدة. 9- تعزيز المصالح المشتركة والتعاون المتبادل. 10- احترام العدالة والالتزامات الدولية. ولقد سعت الحركة إلى تعزيز حق تقرير المصير للشعوب الواقعة تحت سيطرة الدول الاستعمارية أو تلك التي تتعرض لغزو خارجي أو سياسات الفصل العنصري. وهذا ما جعلها موقع "ريبة" من قبل الدول الاستعمارية، التي كانت تسيطر على بلدان عديدة في قارات العالم، حيث رأت فيها مناهضة لسياساتها وتصرفاتها ومواقفها في المحافل الدولية. ونظراً للتحولات الدولية، وقيام حروب إقليمية، وانهيار الاتحاد السوفييتي، وبروز القطب الأوحد المتمثل في الولايات المتحدة على المسرحين السياسي والعسكري، وغياب مؤسسي الحركة، فإن "وهج" الحركة قد تلاشى، وغلبت مصالح الدول الأعضاء فيها على المبادئ التي تضمنها مؤتمر "باندونغ". بل والأنكى من ذلك أن دولاً رئست المنظمة (ليست إيران آخرها) بدت منحازة ضد عدم الانحياز، وهذا ما برز في المؤتمر الأخير للحركة الذي عقد في طهران الأسبوع الماضي، حيث خرج الإعلام الإيراني عن قواعد المهنة والمصداقية، وقام المترجمون بتحوير مقاصد وكلمات الرئيس المصري (محمد مرسي) في أكثر من موقع، كي تتلاءم مع التوجهات السياسية الإيرانية. فقد تم حشر اسم مملكة البحرين في الترجمة على رغم عدم ورودها في الخطاب المذاع مباشرة على الهواء، حيث كان الرئيس المصري يتحدث عن دول "الربيع العربي" تونس، ليبيا، مصر، سوريا، واستبدل المترجمون سوريا بالبحرين. بل إن المترجمين حذفوا ذكر الرئيس المصري لأسماء الخلفاء الراشدين الأربعة (رضي الله عنهم). وقامت مواقع إيرانية معارضة وناشطون إيرانيون باستعراض ما حصل في نقل وقائع افتتاح قمة عدم الانحياز، واصفين ما حدث بأنه "تجيير" لخطاب مرسي لصالح أهداف إيرانية. وردت تلك المواقع على مواقع معارضة لها بأنها افتقدت المهنية في عدم نقل أهم محاور خطاب الرئيس المصري وهو الوضع في سوريا، واعتبار خطابه "متشدداً" و"غير منطقي تجاه سوريا". وقد اعترف مسؤول إيراني بأنه حدث تحريف لكلمة الرئيس المصري. وهذا الانحياز من دولة ترأس حركة عدم الانحياز يجعل الثقة في مداولاتها واتصالاتها في الفترة المقبلة محل شك. ذلك أن السياسة الإيرانية تتعارض مع كثير مبادئ حركة عدم الانحياز خصوصاً المادة الثانية (احترام سيادة جميع الدول وسلامة أراضيها) والمادة الرابعة (عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى أو التعرض لها) والمادة الثامنة (الحل السلمي لجميع الصراعات الدولية وفقاً لميثاق الأمم المتحدة). إن التعصب الأعمى للأيديولوجية يتعارض جداً مع أهداف حركة عدم الانحياز، وهذا ما شكك في مصداقية تناول الإعلام الإيراني الرسمي للمؤتمر. وعشية اختتام قمة طهران اتهمت المخابراتُ اليمنية السلطاتِ الإيرانية بدعم خلية تجسسّية في مدينة عدن كانت تستهدف القنصلية السعودية، وأشارت إلى أن الخلية تلقت تدريبات عسكرية في طهران. وهذا يدعم الرأي بأهمية تقديم رئاسة حركة الانحياز شهادةً بعدم الانحياز! وعلى رغم الشلل الذي تعيشه الحركة في ظل فشل المجتمع الدولي ممثلاً في الأمم المتحدة وهيئاتها المتخصصة، في حل الصراعات الإقليمية والدولية، فإن أعضاء الحركة (120 دولة) يبدون أكثر قرباً في مؤتمراتهم من شكل (العلاقات العامة) و"إتيكيت" المجاملة، بعيداً عن البحث الجدي في مبادئ الحركة وتطبيقاتها في سياسات الدول الأعضاء على الأرض. ولذلك فإن بداية تسلّم إيران لرئاسة الحركة قد حصلت فيها تجاوزات إعلامية مهمة، قد تهدد "المصداقية" وعدم الانحياز الذي يجب أن تتحلى بهما دولة الرئاسة. وسوف يطغى التوجه العقائدي المنحاز على شكل إدارة أعمال الحركة للفترة المقبلة وعلى القرارات التي ستصدر عنها. د. أحمد عبدالملك أكاديمي وإعلامي قطري