في السابع والعشرين من الشهر الماضي، افتتح هولاند بقصر الإليزيه المؤتمر السنوي العشرين للسفراء. ويُعتبر هذا المؤتمر، الذي أسسه "ألان جوبيه" عندما كان وزيراً للخارجية، تقليداً مفيداً يجتمع فيه كل سفراء فرنسا في الخارج مرة في السنة من أجل تبادل التجارب ومناقشة المواضيع المختلفة والتنسيق في ما بينهم. كما يمثل أيضاً مناسبة لرئيس الدولة ليقدم رؤيته للعالم وللدور الذي ينبغي أن تلعبه فرنسا فيه. وهكذا، فقد كان الجميع في انتظار كلمة هولاند في هذا المؤتمر، ولاسيما أن القضايا الاستراتيجية كانت غائبة إلى حد كبير خلال الحملة الانتخابية للرئيس الفرنسي. والجدير بالذكر في هذا الصدد أن "لوران بينيه" يشير في كتابه (الرائع)، الذي يحمل عنوان "لا شيء يتم مثلما كان مخططاً له" (الصادر عن دار جراسيه)، إلى أن ذلك كان اختياراً إرادياً لهولاند، الذي كان يرى أن هذه القضايا ليست لديها أي فائدة انتخابية. وكان ساركوزي قد شن هجوماً، في وقت سابق من هذا الصيف، على خلفه هولاند بشأن الطريقة التي تعامل بها مع الأزمة السورية وآخذ عليه عدم رده على الأزمة بشكل مناسب. غير أن تصريحات الرئيس السابق اعتبرت من قبل الكثيرين خرقاء وغير موفقة، وتُظهر انفعالاً من جانبه. كما أنها لم تأخذ في عين الاعتبار الوقائع العسكرية لأنه عقد مقارنة غير متكافئة بين ليبيا وسوريا. الرئيس الفرنسي حرص في خطابه على إعادة التشديد على الدور المهم للأمم المتحدة، مشيراً إلى أن فرنسا لن تشارك في أي عملية لحفظ السلام أو لحماية المدنيين إلا إذا كان ذلك في إطار تفويض من مجلس الأمن الدولي. وهي طريقة لرفض الدعوات غير الواقعية في الحقيقة، التي تصدر عن البعض وتطالب فرنسا بالتدخل عسكرياً في سوريا، رغم حالة الانسداد الموجودة في مجلس الأمن الدولي حالياً. ويدعو هولاند إلى إصلاح وتوسيع مجلس الأمن، غير أنه بالإمكان القول إن ذلك لن يتحقق بالنظر إلى العرقلة الروسية والصينية، ولكن أيضاً الأميركية . وعلى صعيد آخر يدعو إلى استحداث ضريبة على الصفقات المالية يرغب في أن تبدأ في إطار أوروبي أولاً، على أن يتم توسيعها على صعيد دولي لاحقاً. وإضافة إلى ذلك، أعاد هولاند استعمال المخطط الكلاسيكي لفرنسا كحليفة للولايات المتحدة وليس كمنحازة إليها، وعبر علناً ولأول مرة عن تحفظات بشأن برنامج الدرع الصاروخية الأميركية في أوروبا. وفي وقت ترتفع فيه بعض الأصوات مطالبة هولاند بعدم الذهاب إلى كنشاسا في جمهورية الكونجو الديمقراطية من أجل المشاركة في قمة الفرانكفونية في أكتوبر المقبل، حتى لا يوفر دعماً سياسياً ودبلوماسياً لنظام جوزيف كابيلا، أعلن هولاند أنه سيتوجه إلى هناك، ولكنه أوضح أنه سيجتمع مع المعارضة والمجتمع المدني، وأن الفرنسية ليس مسألة لغوية فحسب، وإنما هي أيضاً مجموعة من المبادئ والقيم السياسية. أما في ما يتعلق بسوريا، فقد عبر هولاند عن أمله في تشكيل حكومة مؤقتة واعداً باعتراف فرنسا بها في حال تشكيلها. ومما لا شك فيه أن ذلك لن يغير من الوضع العسكري الميداني شيئاً، إلا أنه يمثل طريقة لممارسة الضغط على المعارضة السورية حتى تقوم برص وتنظيم صفوفها بشكل أفضل وتتحدث بصوت واحد، وذلك لأن انقسام المعارضة، سواء على الصعيد العسكري أو على الصعيد السياسي، أمر يصب في مصلحة نظام الأسد. كما طالب هولاند برحيل هذا الأخير، معتبراً أنه لن يكون ثمة أي حل سياسي معه. غير أنه بخصوص منطقة الشرق الأوسط، كان هولاند أقل وضوحاً من ساركوزي، علماً بأن هذا الأخير يعتبر صديقاً لإسرائيل. ذلك أن هولاند لم يتحدث عن دولة فلسطينية، مشيراً فقط إلى حق هذا الشعب في تقرير المصير، ومكتفياً بدعوة الإسرائيليين إلى العودة إلى طريق المفاوضات، وهي دعوات من غير المرجح أن يكون لها تأثير على الأرض. وعلاوة على ذلك، فإن هولاند لم يكشف أيضاً عما ستفعله فرنسا في حال عرقلة إسرائيلية. كما أنه لم يقل شيئاً عن الاحتلال الذي كان يندد به ساركوزي. لقد أضر ساركوزي كثيراً بعلاقات فرنسا مع البلدان الصاعدة مثل المكسيك وتركيا، بل وحتى البرازيل، كما أهمل اليابان. أما هولاند، فقد دعا إلى تقوية علاقات فرنسا مع هذه البلدان. وفي ما يمكن اعتباره ابتكاراً جديداً، سلط هولاند الضوء على أخطار تجارة المخدرات الدولية، التي رفعها إلى مستوى التحدي الاستراتيجي، ودعا إلى استراتيجية عالمية من أجل محاربتها. وبشكل عام، يمكن القول إن خطاب هولاند كان خطاباً عادياً، حتى نعيد استعمال المصطلح الذي يحب أن يصف به رئاسته. وخلافاً لعهد ساركوزي، فإنه لم تكن ثمة وعود بإصلاحات دولية كبيرة أو بإعادة صياغة النظام الدولي على نحو تصبح فيه فرنسا بمثابة المحرك، وهي وعود لم يتم الوفاء بها على أرض الواقع أصلاً. لقد قدم هولاند ورقة نظيفة. صحيح أن هناك ربما غياباً لتفكير شمولي حول هوامش المناورة التي تمتلكها فرنسا في عالم يعيش عملية تحول كلية. ولكنه تطرق إلى قضايا الساعة الرئيسية، وقدم إجابات صادقة، وتحاشى الكلام المنمق والزخارف اللغوية التي لا علاقة بها بالوقائع الاستراتيجية، وهو ما يمكن أن نهنئه عليه. إلا أنه خطابه يفتقر إلى غياب تفكير عميق حول ما يمكن أن يشكل الخصوصية الفرنسية على الصعيد الاستراتيجي.