في مجمل القضايا الساخنة التي توتر الشرق الأوسط "الكبير" تختلط المواقف وتتشابك، تدَّعي البحث عن حلول ولا تنتج سوى مزيد من التعقيد. يصح هذا الاستنساخ على الدول كما الجماعات، حتى غدت مظاهر القوة وكأنها متساوية في النتيجة مع مظاهر الضعف، فلا هذه ولا تلك قادرة على إحداث التغيير المرتجى. لذلك يسيطر الجمود على ملف السلام الفلسطيني - الإسرائيلي، وعلى الملف النووي الإيراني، وأخيراً على مسار الأزمة المتفاعلة في سوريا. اتخذت إيران من قمة عدم الانحياز ظاهرة للخروج من العزلة وفرصة لتسجيل نقاط دبلوماسية ضد دول الغرب ووكالة الطاقة الذرية ومجلس الأمن. غير أن نقطة القوة التي سعت إليها بكثير من الإصرار لم يكن متوقعاً، لها أن تعمِّر أكثر من لحظة انعقاد القمة. ورغم أنها عدَّت حضور الأمين العام للأمم المتحدة بمثابة انتصار معنوي، بعد الانتقادات الإسرائيلية المسبقة لمشاركة بان كي مون، إلا أن طهران لم تخف امتعاضها من مواقف بان كي مون وبالأخص من مآخذه على انتهاكات حقوق الإنسان داخل إيران. ثمة تشابه يضاهي التفاهم الضمني بين سلوكي إيران وإسرائيل، فالأخيرة لا تنفك تدق طبول الحرب ظناً منها أن تهديداتها تقوِّي موقف الدول المتفاوضة مع إيران، إلا أن نقطة الضعف الأكيدة في الموقف الدولي من الأزمة النووية هي تحديداً الطريقة التي تتصرف بها إسرائيل لأن وجود ترسانتها النووية خارج رقابة الشرعية الدولية هي نقطة قوة للحجة الإيرانية. لكن عندما يسترجع كبار المسؤولين الإيرانيين اللغة والمصطلحات النازية للحديث عن محو إسرائيل من الخريطة، ظناً منهم أن هذا الخطاب يدفع الدول الكبرى إلى الواقعية في التعامل معهم، إلا أن مثل هذا التهديد يقوي حجة إسرائيل بأن "القنبلة الإيرانية" خطر على وجودها. الملفت أن إيران لم تقل ولا مرة إن "وجودها" مهدد بالقنبلة النووية الإسرائيلية، وهي قنبلة موجودة فعلاً. خلافاً للضجيج السياسي والإعلامي حيال إيران، التزمت إسرائيل تجاه الأزمة السورية صمتاً حكومياً مدروساً، ما جعل العديد من المراقبين يعتبرونه نقطة قوة للنظام السوري، بل استخدموه لتفسير الموقف الأميركي غير المحسوم، ورغم أن هذا المعطى يضعف شعاري "المقاومة" و"الممانعة" اللذين اختبأ النظام السوري وراءهما طويلاً، إلا أنه لم يعد مهتماً بما يقال عن "مبادئه" طالما أنه يواجه أزمة وجود. هذا لا يمنع نظام طهران من أن يعمد أخيراً إلى تظهير دعمه غير المحدود للنظام "منعاً لكسر خط المقاومة". وإذ تقدم إيران مساندتها هذه باعتبارها نقطة قوة للنظام، فإنها تساهم، كما إسرائيل، في إضعافه وإثبات أنه إذا بقي لديه رمق من الشرعية فإنه مستمد من الصمت الإسرائيلي والدعم الإيراني. في السياق ذاته وجد رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير فرصة سانحة للدفاع عن سياساته التي أطاحته من منصبه. وللتدليل على أنه يحتقر الانتقادات الموجهة إليه اختار منبراً في جوهانسبيرغ (جنوب أفريقيا) للقول إن قادة اليوم يواجهون في ملفي سوريا وإيران المعضلة نفسها التي واجهها هو مع نظام صدام حسين. ونسي بلير أن البريطانيين وسواهم لا يلومونه على "حرب كوسوفو" التي شارك فيها، إلا أنهم يدعون إلى محاكمته كـ"مجرم حرب" في ما خصَّ العراق. فالرأي العام يميّز بوضوح بين الدوافع والأسباب حتى لو تشابهت الظروف، وبالتالي يفترض أن يدرك بلير أنه لم يعد المحامي المناسب عن مثل هذه القضايا، بل هو نقطة ضعف إذا ما أراد خصوم النظام السوري الاستناد إلى ذرائعه. والأكيد أن الطريقة المتهورة التي اتبعها مع جورج دبليو بوش، بغزو العراق واحتلاله وإغراقه في حروب أهلية طائفية، هي التي تكبل أيدي الدول الكبرى وقادتها، بدليل أن ما يعتبره بلير موقف قوة ينبغي أن يحتذى، أضعف دول الغرب وسهّل استقواء روسيا وإيران. وبما أن بلير هو ممثل "الرباعية"الدولية للشرق الأوسط فلا بأس بالتذكير أن هذه "الرباعية" لم تستطع منذ نشوئها إثبات أنها معنية حقاً بإقامة السلام، رغم أنه مبرر وجودها. ذاك أنها وممثلها يقصران عملهما على نقاط الضعف في الجانب الفلسطيني لتصبح نقاط قوة لـ"السلام"، ومنذ استنفاد "بنك التنازلات" الممكنة فلسطينياً تنتقد "الرباعية" وممثلها أي عمل غير تسكين الجمود والحؤول دون انفجاره، لكنهما يتفرغان لشؤونهما الخاصة ومنها أو لعل أهمها ترك سوريا تضعف نفسها بنفسها تعزيزاً لقوة إسرائيل ولتغوُّلها المتمادي على الفلسطينيين.