عرف التحليل السياسي جدلاً واسعاً حول العلاقة بين المتغيرات "العالمية" والمتغيرات "الإقليمية". تمثل الفكر التقليدي في أن الغلبة المطلقة للأولى على الثانية، بمعنى أن ما يحدث في الأقاليم ليس سوى انعكاس لإرادة القوى العظمى والكبرى، بينما ظهر تيار تحليلي أحدث ينطلق من التسليم بأن للمتغيرات "العالمية" تأثيرها على المتغيرات "الإقليمية"، غير أن هذا التأثير غير مطلق، إذ تتساوى درجاته بناء على عوامل محددة، وقد تفضي هذه العوامل إلى تحييد هذا التأثير أصلاً، بل إنها قد تقلب الآية فتجعل المتغيرات "الإقليمية" هي صاحبة التأثير على "العالمية" ولو في مناسبات محددة، كما حدث على سبيل المثال في حركات التحرر الوطني التي ازدهرت في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، إذ فرض عديد من هذه الحركات إرادته على المتغيرات "العالمية". ويقدم الوضع الراهن في سوريا حالة دراسة فريدة للتحقق من صحة التحليل السابق، إذ أنه منذ بدأت الثورة ضد النظام وبدأت معها أعمال العنف المفرط من قبله تجاه معارضيه مارست قوى عظمى وكبرى ضغوطاً على النظام كي يخضع لإرادة هؤلاء المعارضين. بدأت المسألة في النطاق العربي لتحقيق هذا الهدف، فأصدر مجلس وزراء خارجية جامعة الدول العربية قراره بمنع مشاركة سوريا في اجتماعاته بل واجتماعات كافة أجهزة الجامعة ومنظماتها على كل المستويات، وكانت للجامعة العربية مبادرتها لحل الوضع المتدهور في سوريا، كما أرسلت مراقبين لاستجلاء الحقيقة فيما يحدث بين النظام ومعارضيه كي يمكن اتخاذ قرارات أكثر رشادة تجاه الوضع هناك، لكن النظام هناك كان عصياً على هذا كله. ومع ظهور عجز الجامعة العربية عن وضع حل للأزمة السورية انتقل ملفها إلى مجلس الأمن الذي كان عمله موضع رضا الجامعة التي كانت حريصة على عدم تكرار الخطأ الذي وقع في التعامل مع الثورة الليبية حين فوض مجلس الجامعة مجلس الأمن في مسألة التدخل لحماية الثوار، فكان ما كان مما لا نعلم أسراره الدقيقة حتى الآن، وإن كانت تصوراتنا تذهب إلى أن ذلك التدخل كانت له أهدافه البعيدة التي قد لا تكون لها علاقة بالثورة الليبية أصلاً. وكرر مجلس الأمن سلوك مجلس وزراء الخارجية العرب على نحو نمطي: إدانة للنظام السوري، ومبادرات للحل، وفرق للمراقبة، ومبعوث رفيع المستوى لمحاصرة الأزمة وحلها. لكن فشل الجامعة العربية تكرر بحذافيره، واستقال كوفي عنان الذي يفترض أنه كان يتحدث بلسان الأمم المتحدة والجامعة العربية معاً إعلاناً عن فشل المنظمة الدولية في حل الأزمة، ويلاحظ أن هذا كله تم في ظل تصريحات "عنترية" من قوى عظمى وكبرى بعينها أخذت تهدد النظام السوري بعظائم الأمور إن لم يرتدع، وتتنبأ بقرب سقوطه، وتعقد الاجتماعات للبحث في حكومة ما بعد الأسد، لكن هذا النظام ما زال باقياً حتى الآن، ممعناً في استخدام العنف ضد المعارضين، فلماذا يستعصي النظام السوري الحالي على كل هذه الضغوط؟ هنا يتعين علينا أن نعود إلى فكرة "العوامل المحددة" التي سبقت الإشارة إلى أنها هي التي تحدد درجة تأثير "العالمي" على "الإقليمي" لنفصل فيها ونستكشف تأثيرها على الحالة السورية. أما هذه العوامل فيمكن تلخيص أهمها في "تماسك" المتغيرات "العالمية"، والشيء نفسه في المتغيرات "الإقليمية"، بمعنى أن تأثير النظام العالمي على وضع إقليمي ما يكون في حده الأقصى إذا وجدت "وحدة" للقوى القيادية في النظام، ويكون في حده الأدنى إذا غابت هذه الوحدة، وكذلك فإن تأثير "العالمي" على "الإقليمي" يكون في حده الأدنى إذا كان يواجه واقعاً إقليمياً متماسكاً، وفي حده الأقصى إذا كان هذا الواقع يعاني من الانقسام والتشرذم. ولنبدأ في تطبيق هذه المقولات البسيطة على الحالة السورية. نلاحظ بداية أن تأثير النظام العالمي في هذه الحالة يفترض أن يكون في حده الأدنى أو قريب من ذلك، بسبب انقسام قوته بين قوى تعمل لإسقاط النظام السوري (وعلى رأسها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا) وقوى تعمل بصلابة على حمايته انطلاقاً من اعتبارات مصلحية غير خافية (وهي روسيا الاتحادية والصين)، وقد تسببت هاتان الدولتان في عرقلة أي قرار حاسم من مجلس الأمن ضد نظام الأسد بسبب تمتعهما بحق الاعتراض، كما يقال إنهما -وبالذات روسيا- تزودانه بالأسلحة المطلوبة لتعزيز قدرته على مواجهة المعارضين بالعنف، بالإضافة إلى أن القوى العالمية التي تعمل على إسقاط النظام السوري مترددة على نحو واضح في القيام بعمل عسكري ضده، ناهيك عن أن يكون في إطار الشرعية الدولية، فالولايات المتحدة مقبلة على انتخابات رئاسية في نوفمبر القادم لا يمكن المخاطرة معها بأية مغامرة غير مأمونة العواقب، وفرنسا يحكمها رئيس جديد ما زال في شهوره الأولى فيما تتناقص شعبيته، ولذلك لا يمكنه المخاطرة باتخاذ قرار بالتدخل العسكري في سوريا، وبريطانيا كما هو معروف لا حول لها ولا قوة إلا بوجود الولايات المتحدة إلى جوارها، ويعني هذا أن "الوحدة" لم تصدر عن قمة النظام العالمي فيما يتعلق بمواجهة الوضع في سوريا فحسب، وإنما يضاف إلى ذلك فقدان الإرادة لدى الدول المعادية للنظام السوري في مسألة التدخل العسكري بصفة خاصة. أما النظام السوري فقد ظل إلى وقت ليس بالبعيد يظهر تماسكاً واضحاً، ولكن علامات التفكك بدأت تظهر عليه مؤخراً، كما تمثل في انشقاق نفر من أبرز أعضاء النخبة الحاكمة عليه، وفي طليعتهم رئيس الوزراء السابق بطبيعة الحال، بالإضافة إلى أنه لا يملك رؤية سياسية للخروج من ورطته، وإنما كل ما يعنيه هو تصعيد العنف ضد مواطنيه، وهذا يعني أن المتغير "الإقليمي" ممثلاً هنا في النظام السوري ليس في أحسن حال، وأن هذا الوضع يمثل فرصة ذهبية أمام القوى العالمية الراغبة في إسقاطه لولا تفككها على نحو ما سبقت الإشارة إليه، غير أنه لابد في المقابل أن نشير إلى أن المعارضة في سوريا ربما تعاني من انقسامات أفدح سياسياً وعسكرياً، كما أن ثمة ممارسات منسوبة لبعض فصائلها تسيء إليها، ويمكن استخدامها بسهولة لدعم وجهة النظر القائلة بأن بقاء النظام أفضل. هل يمكن للتحليل السابق أن يضيء لنا بعض العلامات في الطريق إلى الخلاص؟ يمكن القول بداية إنه لا أمل مطلقاً في تأثير عالمي فاعل على مجريات الأمور في سوريا ما لم تغير روسيا والصين موقعهما، وأعتقد أن هذا من رابع المستحيلات لأن هذا الموقف مبني على مصالح محددة وأساسية للدولتين، وبالتالي يبقى الأمل في المتغيرات المتفاعلة في الساحة السورية نفسها، فإذا ازداد تفكك النظام بوتيرة سريعة سوف يعطي هذا لقوى المعارضة السياسية والعسكرية فرصة أكبر لحسم الموقف، والعكس صحيح، بمعنى أن استرداد النظام عافيته -وإن كان هذا السيناريو صعب الحدوث- مع استمرار الانقسام في قوى المعارضة قد يعطيه فرصة حسم الموقف لصالحه، كذلك يمكن للمعارضة أن تكون في موقع الحسم إذا تمكنت من تحقيق وحدتها أو على الأقل التنسيق بين فصائلها، أما السيناريو المخيف فهو أن تبقى الأمور على ما هي عليه في ظل غياب التأثير الخارجي الفعال، فتتعرض سوريا لحرب أهلية طويلة لاشك أنها ستكون ضحيتها الأولى.