أثناء عصر النهضة العربية كان للمرأة حضور بارز إن في الأطروحات حولها وحول مكانتها ودورها وإن في المشاركات النسائية الفاعلة في التأثير والشأن العام، والتي كان من أبرزها المشاركات الشعرية والأدبية والثقافية عموماً. أنشأ حسن البنّا جماعة الإخوان المسلمين في خضم صراعات سياسية وفلسفية وثقافية متعددة الجوانب والاهتمامات، وقد كان من ضمن تلك الصراعات والجدالات الجدل حول المرأة ومكانتها، وقد كانت كتب قاسم أمين وفكره وأطروحاته تجاه المرأة ملء السمع والبصر حينذاك، كما كانت مجالس الأديبة المعروفة "مي زيادة" عامرةً بالأدباء والمثقفين من كل شكلٍ ولونٍ، وفي هذا السياق تشكل وعي حسن البنّا تجاه المرأة. كتب حسن البنّا في البدايات موقفه الديني تجاه المرأة ومكانتها، فكان فيه وعيٌ يرصد تأثيرها الاجتماعي العميق الذي سارت عليه جماعته لاحقاً وفيه أيضاً تقليلٌ كبيرٌ من شأن المرأة، فيقول في الأوّل: "المرأة نصف الشعب، بل هي النصف الذي يؤثر في حياته أبلغ التأثير، لأنها المدرسة الأولى التي تكوّن الأجيال وتصوغ الناشئة، وعلى الصورة التي يتلقاها الطفل من أمه يتوقف مصير الشعب واتجاه الأمة" ومع هذا الوعي بدور المرأة الحركي فقد كان مهجوساً أكثر حينذاك بالجدل حول مكانتها فقال: "ومن حسن التأديب أن يعلمهن ما لاغنى لهن عنه من لوازم مهمتهنّ كالقراءة والكتابة والحساب والدين والتاريخ –تاريخ السلف الصالح رجالاً ونساءً- وتدبير المنزل والشؤون الصحية ومبادئ التربية وسياسة الأطفال، وكل ما تحتاج إليه الأم في تنظيم بيتها ورعاية أطفالها ... ليست المرأة بحاجة للتبحر في اللغات ... الدراسات الفنية الخاصة، فستعلم عن قريبٍ أن المرأة للمنزل أولاً وأخيراً" مجموعة الرسائل ص 285. هذا الرأي الأخير المحتقر لمكانة المرأة لدى مؤسس الجماعة غلبه عليه لاحقاً وعيه الحركي بدورها في خدمة التنظيم، فسعى لضمّ "جماعة السيدات المسلمات" التي كانت ترأسها زينب الغزالي لتصبح تحت شعار الإخوان المسلمين ومع رفض زينب الغزالي المتكرر قرّر إنشاء "تنظيم الأخوات المسلمات" الذي يختص بعالم المرأة والنساء، ويستقطب فيه قدر ما يستطيع وذلك ضمن خريطةٍ تشمل عدة تنظيماتٍ أنشأها كانت تتعلق بتقوية جماعته وتعزيز نفوذها سياسياً واجتماعياً وعسكرياً. مع نشاطٍ إخوانيٍ نسائي خجولٍ في البدايات يركز على قريبات أعضاء التنظيم، فقد تطوّر لاحقاً 1944 إلى لجنةٍ تنفيذيةٍ للأخوات المسلمات، كانت رئيستها "آمال العشماوي" ووكيلتها "فاطمة عبدالهادي" بـ"هيكلية عملٍ ولائحةٍ منظمةٍ" كما يذكر الإخواني العتيد فريد عبدالخالق في تقديمه للكتاب الصادر حديثاً 2011 "رحلتي مع الأخوات المسلمات" لمؤلفته فاطمة عبدالهادي. تقول فاطمة عبدالهادي: "أما تجمعنا نحن فكان تابعاً مباشرةً وبشكلٍ منظمٍ للإخوان، وكان مسؤولاً عنه الأستاذ محمود الجوهري ويتابعه مباشرة المرشد الشيخ حسن البنّا". كانت رؤية حسن البنّا لهذا التنظيم النسائي منصبةً على توظيف المرأة حسب رؤيته السابقة في استقطاب المرأة والتركيز على تعليمها القراءة والكتابة والتمريض وتدبير البيت، ولكن تمّ تطوير لاحقٌ لهذه الأدوار، فقد استُخدم هذا التنظيم في عملياتٍ أخرى بعضها في زمن البنّا وبعضها بعده، فتمّ توظيف التنظيم النسائي في اختراق مؤسسات التربية والتعليم وأنشطتها اللاصفية، وفي اختراق العوائل السياسية المؤثرة كآمال عشماوي ابنة محمد العشماوي وزير المعارف، وزوجة منير دلّة المستشار بمجلس الدولة حينذاك. لم يكن اختراق العوائل السياسية المؤثرة يراد به السياسة فحسب، بل كان من وظائفه الدخول على "بيوت الثراء والسعة" كما يعبر فريد عبدالخالق، وتطوّر هذا الاختراق فيما بعد ليصبح واحداً من أقوى دعائم جماعة الإخوان المسلمين عبر "جمع التبرعات" و "الأعمال الخيرية". ولئن كان المال عصب الحياة، فقد أثبت تنظيم الأخوات المسلمات قدرةً واضحةً منذ البدايات على النجاح في جمعه وتطوّرت آليته لاحقاً لعملية أكثر تعقيداً ونجاعةً، وتمّ تصدير هذا التنظيم بمهامه المتعددة إلى كثيرٍ من البلدان العربية وبخاصةٍ في دول الخليج حيث النفط والمال. وتطوّرت للتنظيم النسائي كذلك أدوار أخرى عبر مسيرة الجماعة يأتي على رأسها توظيف هذا التنظيم لمساعدة الجماعة وعناصرها الذكور في لحظات المواجهات السياسية والأمنية، فكان يتمّ استغلالهنّ على الدوام في عمليات دعمٍ لوجستيةٍ من جمع المال إلى نقل المعلومات إلى عمليات الإيواء والتستر ونحوها، وهذا التوظيف للمرأة تنظيمياً وصل لجماعات العنف الديني كجماعة القاعدة التي أسرفت في استخدام النساء على ذات النهج "الإخواني" العتيق. إنّ استخدام العنصر النسائي المنظّم في مثل هذه العمليات الخطرة يأتي ضمن منهج الاستغلال "الإخواني" الأشمل، فلطالما أتقن "الإخوان" هذا المنهج الاستغلالي، سياسياً في الداخل والخارج، في الداخل استغلوا كل التيارات المفارقة كالوفد ثم حاولوا استغلال ثورة العسكر قبل أن ينقلبوا عليها وتنقلب عليهم، وخارجياً استغلوا كل الدول التي حمتهم أو تحالفت معهم، ودينياً فقد استغلّوا كل ممكنات الخطاب الديني الذي يتبنونه ووجهوه لخدمتهم، فأدلجوا الدين وسيّسوه، واعتقلوا بذلك أذهان كثيرٍ من أتباعهم والمتأثرين بهم. وعودةً للتنظيم النسائي فقد كانوا في سبيل حماية مشروعهم وبخاصةٍ في أوقات انكشافهم يستغلون القيم العربية الأصيلة والاجتماعية الراسخة التي تحترم المرأة البريئة وترفض التعرض لها بسوءٍ وذلك بقصد حماية عناصر تنظيمهم النسائي الناشطة آيديولوجياً وسياسياً من أي مسائلةٍ أمنيةٍ، أي باختصار استغلال الميراث الاجتماعي للتهرب والتشويش على أي قرارٍ سياسيٍ وقانوني وأمني. وفي هذا السياق وأثناء اعتقالات "الإخوان "في منتصف الخمسينيات كانت فاطمة عبدالهادي تقوم بالكثير من الأدوار اللوجستية السابقة الذكر، وتروي قصةً جديرةً بالذكر، وهي أنّها أثناء الاعتقالات والمطاردات لعناصر الإخوان "فوجئت بأربعة من الرجال أحاطوا بنا على باب بيتنا مثلما تحيط الشبكة بصيدها، ونادى أحدهم على مخبر الحراسة الخاص بأنور السادات (الذي كان يسكن في نفس العمارة) ليحضر تاكسي ... وناديت بأعلى صوتي: إنزل يا أنور السادات يا رئيس المؤتمر الإسلامي، أَجِرْ امرأةً جارةً لك .. وإذ بأنور السادات ينزل من السلم .. وللحق فقد كان في الرجل مروءةً وبدا عليه الاستياء فطلب منهم عدم التعرض لي ونادى على أحد الضباط وقال له: أنظر ماذا تريد الست وافعله" ص55. أخيراً، فإنّ فيما جرى في السعودية من استغلال للتنظيم النسائي من قبل "القاعدة"، وما يجري اليوم في دولة الإمارات من استغلالٍ للتنظيم النسائي إخوانياً ما يؤكد أنّ هذا التنظيم شديد الخطورة ومتعدد المهامّ، وما أشبه الليلة بالبارحة. عبدالله بن بجاد العتيبي Bjad33@gmail.com