في شهر أغسطس الماضي، كنت في زيارة لجامعة كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأميركية، ومن أول يوم في الزيارة لفت انتباهي وجود المئات من الأطفال في الجامعة استغربت من عمرهم، فهم أصغر من أن يكونوا طلبة في هذه الجامعة، فلما سألت المعلمين المرافقين لهم، تبين لي أنهم تلاميذ في الصف السادس الابتدائي من المدارس القريبة من الجامعة يأتون في بداية العام الدراسي لمدة أسبوع للتعرف على كليات الجامعة المختلفة ومرافقها. وعندما سألت عن المنطق وراء ذلك قيل لي إن هذه الزيارة تسهم في فهم التلاميذ متطلبات التعليم العالي وتوجه مهاراتهم للتخصصات التي يرغبون دراستها في المستقبل، كما أن هذه الزيارة تجعل لتعليمهم الحاضر معاني جديدة، لأن كل مادة يتلقونها يستطيعون ربطها بمستقبلهم الأكاديمي والمهني. كتبت ملخصاً لهذه الفكرة في حساب "توتير" الخاص بي، فجاءتني ردود مضحكة وفي الوقت نفسه متسائلة منها: “لما كنا في عمرهم كانوا يأخذوننا إلى حدائق الحيوانات فقط، كنا نذهب إلى المراكز التجارية في رحلة علمية! كانت الرحلات لإضاعة الأوقات، أختي تقيم بجانب جامعة وتتمنى زيارتها لكنها ممنوعة...”. أكتب هذا المقال وآلاف الطلبة يتجهون إلى الجامعات والكليات المختلفة في الإمارات وغيرها من الدول، وبحكم خبرتي السابقة كعميد لوحدة المتطلبات في جامعة الإمارات، فإن جل هؤلاء التلاميذ يشعرون بالغربة نحو المستقبل الذي هم مقبلون عليه، فبعضهم اختار له أهله التخصص الذي يدرسه، وجلهم تبعوا بعض أصحابهم في تخصصاتهم، والقليل منهم من بحث وتأمل في هذا التخصص وقرر أن يختار ما يتناسب مع قدراته ومواهبه، وفي الوقت نفسه سوق العمل يرحب به، الأخير فقط هو من يصنع مستقبله، ويدرس ما يعجبه، أما من سبق عليه القول فهو بين أن يدرس في تخصص يتجرعه، ولا يكاد يستسيغه أو سيفكر في تغيير تخصصه في السنة الثانية وربما الثالثة من دراسته، مما يعد هدراً في حياة هذا الإنسان وفي الميزانية المخصصة للتعليم العالي في الوطن... للأسف الشديد هذا واقع لا ينبغي أن ننكره مع وجود بعض بشائر الخير وتجارب النجاح في بعض الجامعات. وكمخرج من هذه الأزمة، فإنني أشارككم تجربة لمستها في بعض الجامعات، تتلخص في وجود معايير عامة للقبول في هذه الجامعات كنسبة محددة في الثانوية العامة تحددها إدارة الجامعة، ويُقبل الطالب وفق هذه النسبة في الجامعة دون أن ينسب إلى كلية محددة، بل يدرس في السنة الأولى مواد عامة مقبولة في كل التخصصات وتوجد ضمن هذه المواد برامج للارشاد المهني والأكاديمي. وخلال سنته الأولى، يتعرف على قدراته وما يحتاجه سوق العمل، ويطلب منه الالتحاق بكلية ما في الجامعة دون تخصص محدد يدرس في السنة الثانية متطلبات هذه الكلية وهي مقبولة في كل التخصصات في كليته، وخلال السنة الثانية يختار التخصص الدقيق له ويدرسه في السنتين التاليتين. في تصوري أن هذا الاقتراح مناسب جداً في ظل غياب برامج الإرشاد الأكاديمي والمهني في مدارسنا، لكنه لا يغنينا أبداً عن تطوير برامج للارشاد المهني والأكاديمي تبدأ مع التلاميذ، ربما من الصف العاشر كي نستطيع مساعدته في فهم قدراته وبناء طموحاته، بما يتناسب مع تلك الملكات التي زوده الله بها، بهذا نستطيع إعداد جيل المستقبل لجامعات التميز، التي لن تتميز بطلبة يدرسون ما لا يتناسب مع قدراتهم وطموحاتهم.