في الوقت الذي تمنت فيه شعوب ما يسمى بـ"الربيع العربي" أن تتحسن أوضاعها الاقتصادية وأن يكون للتضحيات التي قدمتها ما يبررها اقتصادياً، بحيث تصبح المصاعب الاقتصادية ككرة الخياطة تصغر كلما تم نسج قطعة جديدة، فإن ما حدث هو أن المصاعب الاقتصادية أخذت تكبر كلما تدحرجت، ككرة الثلج مخلفة المزيد من العاطلين عن العمل ومخفضة معدلات النمو ورافعة معدلات التضخم، حيث بلغت خسائر بلدان الربيع العربي حتى الآن وفق جامعة الدول العربية 120 مليار دولار، إذ يتوقع أن ترتفع هذه الخسائر لتحقق رقماً قياسياً جديداً مع نهاية العام الجاري 2012. ومع أن الأسباب التي أدت إلى هذا المأزق الاقتصادي في بلدان الخريف الاقتصادي العربي عديدة، إلا أن أحد أهم هذه الأسباب يكمن في الابتعاد عن المهنية في إدارة الاقتصاد وتسييس هذا العلم، مع كل ما قد يترتب على عملية التسييس هذه من عواقب وخيمة على التنمية وعلى المستوى المعيشي للناس. ولنأخذ بعض الأمثلة الساطعة على عملية التسييس الاقتصادي التي لا تختلف كثيراً عن عسكرة الاقتصاد والمضرة بدورها بالتنمية، ففي تونس أول بلدان الخريف الاقتصادي العربي، تمت إقالة محافظ المصرف المركزي مصطفى كمال النابلي بقرار حكومي وبدون موافقة مؤسسة الرئاسة التي اعترضت على هذا القرار، والسيد النابلي رجل مصرفي ومهني من الطراز الأول، وقد سبق أن فاز في شهر مايو الماضي بجائزة أفضل محافظ لبنك مركزي في أفريقيا لعام 2012 من مجلة "أفريكان بنكرز" المحايدة، حيث استبدل برجل طاعن في السن ويبلغ 80 عاماً ويدير السياسة النقدية بعقلية سنوات السبعينيات، هو السيد الشاذلي العياري، حيث انتقدت وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني هذا القرار. أما سبب الإقالة، فإنها مهنية بامتياز بالنسبة، حيث رفض المحافظ المقال اتخاذ قرارات غير مهنية وذات طابع سياسي وانتخابي تتماشى وسياسة الحزب الحاكم التي يمكن من وجهة نظر المحافظ أن تلحق ضرراً بالاقتصاد التونسي وبالموارد المالية المحدودة للدولة. وقد سبقت هذه الإقالة، استقالة وزير الإصلاح الإداري محمد عبو في يونيو الماضي ووزير المالية حسين الديماسي، وذلك بسبب محاولات فرض سياسات إدارية ومالية لا تتناسب وسلامة المعايير المالية الصحيحة، حيث سعى أعضاء الحكومة للدفع باتجاه منهج سياسي انتخابي وفق وزير المالية المستقيل. أما في بقية بلدان الخريف الاقتصادي العربي، فإن الإجراءات البعيدة عن المهنية عديدة، بدءاً من اختيار رئيس الوزراء وليس انتهاء بمديري الإدارات والمؤسسات الاقتصادية والمالية والاستثمارية التي تتطلب عملية إدارتها شخصيات مهنية تناسب عصر الإنترنت والعولمة ولا شأن لها بالانتماءات السياسية لهذا الطرف أو ذاك. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى استقلالية المصارف المركزية في الغرب، كالبنك المركزي الأوروبي وبنك الاحتياط الفيدرالي الذي لا تملك الحكومة ولا الرئيس الأميركي نفسه حق التدخل في قراراته التي تحمل طابعاً مهنياً، حتى وإن كان ذلك لا يتناسب وسياسة الرئيس. هنا يكمن الفرق بين الإدارات والحكومات التي تغلِّب وتلتزم بالمعايير المهنية التي تشكل أساس نجاحها ومعالجتها للمسائل المالية والاقتصادية وبين الحكومات المسيسة للاقتصاد التي تقود اقتصادات بلدانها إلى أزمات متكررة بسبب افتقارها للمهنية واستبعادها لكفاءات نادرة يمكنها المساهمة في التنمية ورفع مستويات المعيشة والنمو بعيداً عن التجاذبات السياسية والحزبية ومراكز استقطاب القوى الذي أضر كثيراً بالتنمية في البلدان العربية. ولذلك، فإن الخريف الاقتصادي العربي بحاجة للمهنية حتى يغدو ربيعاً أخضر، وحتى يحقق أماني وتطلعات الناس الرامية إلى تحسين مستوياتها المعيشية وبناء اقتصاد متنامٍ وقادر على المنافسة في الأسواق الدولية. وفي هذه الحالة فقط يمكن أن يتم جني المكاسب التي انتظرها الناس طويلاً، إلا أن الأمور حتى الآن لا تسير في هذا الاتجاه للأسف في بلدان "الربيع العربي" إذ يتوقع أن تتزايد هجرة الأدمغة المهنية التي لا يمكنها العمل بصورة غير مهنية، مما يعني تباعاً المزيد من التدهور الاقتصادي والبطالة والتدني في مستويات المعيشة في هذه البلدان. Summary