ما زال سائداً في بعض البلدان إسلام حرفي انتقائي لا يأخذ من الإسلام إلا الشكل دون المضمون. ويغير نظام الأولويات فيه بدلاً من الدفاع عن المصالح العامة وإشباع حاجات الناس في الغذاء والكساء والإيواء والتعليم والصحة والرياضة البدنية. يتمسك بالمظاهر. فهي الطريق السهل الذي يحشد الناس، ويصعب الاعتراض عليه لا من الفقهاء ولا من العلماء المثقفين ولا من عامة الناس. وقد أصبحت المقابر مكاناً للموالد والأسواق والفنون الشعبية ولتجمع الطرق الصوفية التي هي مخلفة مع الحركة السلفية. فهي ليست ظواهر دينية، شرعية أم لا، بل ظواهر اجتماعية خالصة أصبحت جزءاً من تاريخ مصر مثل مساجدها. وأصبحت القاهرة وغيرها من المدن تعرف بأنها مدينة الأضرحة وأولياء الله الصالحين. يزورها السياح لهذا السبب. ويدرسها المستشرقون ومؤرخو العمارة والفنون. وماذا سيفعل أنصار التعدي على حرمة المقابر بالحسين في مسجده وبالسيدة زينب في مسجدها، وبالسيدة نفيسة في مسجدها؟ ماذا سيفعلون في قبور الشافعي من الفقهاء، والسيد البدوي والرفاعي من الصوفية وأصحاب كرامات شهد لهم الناس بقدرة الرفاعية السيطرة على الأفاعي وإخراجها من الجحور وتخليص الناس منها؟ ولا يمكن تصور القاهرة بدون أضرحة آل البيت الذين لجأوا إليها هرباً من اضطهادهم في الشام من بني أمية؟ وما العمل في أضرحة القديسين النصارى داخل كنائسهم مثل سانت تيريزا؟ لو هدمت لكان تعصباً. ولو تركت لكان معياراً مزدوجاً، الرحمة بالمسيحيين والقسوة على المسلمين. وقد لا يكون أحد من عباد الله الصالحين، فقيهاً أو ولياً أو راهباً بهذه المساجد أو الكنائس بل هكذا اعتقد الناس. وكثير من عقائدهم التاريخية قد لا تطابق الأبحاث التاريخية الحديثة سواء على النصوص أو على الأنبياء أو على القديسين وذلك مثل رأس الحسين وكسيف علي البتار الموجود في كل مساجد الهند وباكستان، وفي كل منها شعرة للرسول، صلى الله عليه وسلم. وماذا لو قامت العامة واتهمت من يقوم بالهدم أو التعدي على المقابر أو من حكم به بالكفر والإلحاد، وبدلاً من خدمة الإيمان قام الناس ضده بعد أن رسخت العقائد الشعبية وأصبح من الصعب تخليصهم منها بسهولة إلا بعد جهد عدة أجيال؟ الخطأ لا ينقض الخطأ بل يثبته. ومجموع الخطأين لا يكوّن صواباً. والتعصب لا يواجه بتعصب مضاد بل يزيد التعصب حدة ويقويه. والبديل هو إعادة بناء المقابر، وإخراجها خارج المدن، والصحراء واسعة، وتحويل أماكنها إلى مساكن شعبية آدمية تبتلع المقابر داخلها. البديل هو إعادة بناء العشوائيات وعشش الصفيح إلى مدن عمالية كما حدث في الستينيات، وداخلها كل الخدمات الممكنة من مدارس ومستوصفات وساحات رياضية لأطفال الشوارع. البديل هو مشروع قومي للإسكان الشعبي بدلاً من المقابر والعشوائيات التي أصبحت مرتعاً لتجارة المخدرات وأماكن لهروب المجرمين أو مقالب للقمامة. ويساعد ذلك على إيجاد فرص عمل للعمال العاطلين ولتحديث أطراف المدن، مداخلها ومخارجها. وتوضع مكان المقابر ميادين عامة وحدائق بها تماثيل الزعماء الوطنيين أو رموز الطبقة العاملة، العمال والفلاحين أو الطلاب بناة المستقبل للحث على التعليم ومحو الأمية كما كان يصدح الشيخ إمام في ثورة الشباب في 1972 في أغنية "شيد قصورك ع المزارع"، و"عمال وفلاحين وطلبة"، استعادة للهتافات الوطنية في الأربعينيات "يحيا الطلبة مع العمال". وما أسهل فرض ضرائب تصاعدية على قصور التجمع الخامس وأشباهه من الأحياء ومساعدة الأغنياء في إسكان الفقراء. ما أسهل فرض ضرائب عقارية على أصحاب الشقق التمليك تتصاعد تدريجياً حتى أصحاب القصور السكنية والفيلات الترفيهية على سواحل مصر الشمالية والشرقية. ما أسهل تحصيل ضرائب على أصحاب الدخول المرتفعة لمساعدة أصحاب الدخول المنخفضة. ويمكن معرفة الحد الأعلى والحد الأدنى للأجور عن طريق تقسيم الدخل القومي على مجموع المواطنين بالتساوي لمعرفة نصيب كل مواطن نظرياً من الدخل القومي بصرف النظر عن طبيعة عمله وخبرته وأجره المرتفع إذا عمل في الخارج. وما أسهل توزيع الخدمات على الأحياء في المدن الكبرى بالتساوي. لكل نصيبها من الدخل القومي وليس فقط الأحياء الراقية التي يسكنها علية القوم أو الأجانب في خطة عامة للتنمية القومية تبدأ بالمناطق الأكثر تضرراً والأحوج إلى الخدمات العامة مثل سيناء، والواحات، والصعيد، والريف، والأحياء الشعبية. هذا هو الشرع العملي، وذلك هو تطبيق الشريعة، لا فرق بين إسلامية ومسيحية. وهذه هي الخدمة الوطنية، لا فرق بين دينية وعلمانية، بين سلفية وليبرالية، بين أصولية وحداثة. فالشريعة للبناء وليست للهدم، للأحياء وليست للأموات، للإيجاب وليست للسلب، للواجب أو الفرض وليست للحرام أو المحظور. حينئذ يشعر الشعب بأن القضية ليست هدم المقابر ولكن بناء العشوائيات، وأن التشريعات ليست فقط للتحريم بل أيضاً لأداء الواجب، وأن الإسلام ليس فقط موضوعات نظرية كالولاية والكرامة وحدها ولكن موضوعات عملية تتعلق بحياة الناس وبمصالحهم العامة. الهدم دون البناء، هدم المقابر دون بناء العشوائيات، قد يثير الناس الذين تعودوا على تقديسها وزيارتها، وتفريغ همومهم فيها. فالثقافة التقليدية ما زالت تقوم على تقديس الأولياء والقديسين وعزو الكرامات لهم، ودعوتهم لقضاء الحاجات. أما البناء، بناء العشوائيات، فإنه يوجد البديل للثقافة الشعبية التقليدية في قضاء حاجات الناس، ورعاية المصالح العامة. إنما يأتي ذلك على الأمد الطويل بالتعليم والوعي الذاتي، والقدرة على تحليل الواقع ومعرفة العناصر المكونة له وعوامل تغييره. وهو آت لا محالة. ودون انتظار تستطيع الثورة حالياً على الأمد القصير أن تقوم بدور التعليم على الأمد الطويل. فالثورة تغير فجائي بعد طول ثبات، بركان بعد طول هدوء، وحركة بعد طول سكون. تستطيع أن تجرف الموروث الشعبي وتعيد صهره. فقد كان نتاج التاريخ والصراعات الاجتماعية والسياسية فيه. لا يوجد موروث شعبي دائم وأبدي إذ أنه نتاج كل زمان، وإفراز كل عصر. ويحدث انتقال نوعي من موروث إلى آخر. من موروث تقليدي إلى موروث جديد قادر على تغيير السلطة ورجالها، يحمي مصالح الناس. ويتحول المقدس من موروث إلى آخر. ويهتز ثباته، ويقضي على أبديته حتى يبدد التعليم المفهوم ذاته. ويتحول المجتمع كله من مجتمع الخرافة إلى مجتمع العلم.