في أواخر القرن التاسع عشر، كان العالم الشرقي، من الصين إلى الهند إلى تركيا، يمر بأزمة عميقة. فمجتمعات تلك الدول التي ظلت جامدة لقرون عديدة، وقفت عاجزة عن مواجهة التحدي الغربي المتمدد في أراضيها. لكن النخب الشرقية التي هالتها قسوة ومادية "البرابرة البيض"، أدركت أنه لابد من مواجهة الغزو الاستعماري. وفي الكتاب الذي نعرضه هنا، "من بين أطلال الإمبراطورية... التمرد ضد الغرب وإعادة تشكيل آسيا"، يبين المؤلف "بنكج ميشرا" أن النخبة الشرقية لدى استجابتها لتحدي الحداثة الغربية انقسمت إلى ثلاث فئات: الرجعيون الذين رأوا أن التقاليد الراسخة للمجتمعات الشرقية وحضارتها العريقة كفيلة بمواجهة ذلك التحدي. والمعتدلون الذين رأوا أن الخيار الأفضل هو انتقاء ما يلزم من عدة الحضارة الغربية وأدواتها مع إبقاء المجتمعات الشرقية على حالها. والثوريون، مثل أتاتورك وماو الذين رأوا أن العلمانية الراديكالية والأيديولوجيات الجديدة هي وحدها القادرة على استقطاب المجتمعات وتمكينها من المنافسة في العالم الحديث. وما يميز الكتاب أنه لا يركز على الشخصيات الشهيرة جداً، مثل غاندي وماو وغيرهما، بل على شخصيات أقل شهرة من النخبة المثقفة التي ألهمت الأجيال اللاحقة، مثل "جمال الدين الأفغاني"، الصحفي والمعلم والمحرض، الذي اتخذ من المساجد والمنازل والمقاهي مجالا لنشاطه الدائب، مما أدى لنفيه من أفغانستان والهند وتركيا ومصر. ويصف المؤلف الأفغاني بأنه كان رجلا قادراً بشكل دائم على تغيير أفكاره وفقاً لظروف البلدان التي كان يحل بها. فرغم أنه شيعي مولود في إيران، فقد تظاهر بأنه سني من أفغانستان حتى يسهل عليه العمل والحركة في البلدان السنية. كما تبنى في شبابه المبكر الأفكار الليبرالية، وناهض التعصب الديني والطغيان السياسي معتبراً إياهما سبباً لتخلف المجتمعات الإسلامية. كما نادى الأفغاني بتعليم المرأة، وبإعادة بناء المجتمعات على أسس جديدة متسقة مع ظروف العصر بدلا من التعلق بأهداب الماضي. وخلال ذلك كله لم يتخل الأفغاني عن كراهيته للاستعمار الغربي. وفي أواخر حياته تحول إلى مُنظِّر يدعو للكفاح المسلح. ورغم أنه مات مبكراً ولم يشهد ثمرة كفاحه، فقد خلّف تركة هائلة، وهو في نظر مؤرخين عديدين مَن صاغ مفردات الخطاب المناوئ للاستعمار في القرن العشرين. وبعد وفاة الأفغاني بست سنوات زار نيويورك مفكر صيني يدعى "ليانج كيشاو"، يعتبره المؤرخون من أهم المفكرين الصينيين في القرن العشرين، وذلك للإطلاع على آليات عمل الاقتصاد الحر. كان"كيشاو" يؤمن بأن ما تحتاجه الصين في عصر المنافسة الدولية هو إنتاج صناعي متقدم، قائم على النظام الرأسمالي، ويتم تنظيمه من قبل دولة قوية، لكن البعد الخاص بعدم المساواة كان يؤرقه ويدفعه للبحث عن طرق جديدة لإنقاذ عمال وفلاحي بلاده الكادحين من سطوة الاحتكارات الرأسمالية. وقد كتب "كيشاو" عقب عودته من أميركا: "الديمقراطية الأميركية لا تقدم نموذجاً يحتذى للصين... وما يمكنني قوله باختصار هو أن الشعب الصيني يجب في الوقت الراهن ولعقود طويلة قادمة أن يقبل بالحكم السلطوي". يصف المؤلف تلك الكلمات والأفكار بأنها كلمات ملهمة؛ فذلك هو ما تحقق بحذافيره في الصين خلال العقود اللاحقة وجعل منها قوة عالمية قادرة على المنافسة بقوة، وإن ظلت السلطوية على ما كانت عليه في عهده، مع فروق طفيفة فرضتها ظروف العصر. وعندما يصل المؤلف لفترة ما بين الحربين، يتحول من السير الشخصية لبعض المثقفين الذين لعبوا أدواراً كبيرة وملهمة في سياق استجابة مجتمعاتهم للتحدي الغربي، ليركز على المناهج المختلفة التي اختارتها الدول الآسيوية، كل على حدة، للتعامل مع تحدي الحداثة، ويخلص أخيراً إلى أن المجتمعات الآسيوية، رغم التطور الذي شهدته، لم تحقق انتقامها من الغرب الذي ألحق بها المهانة في الماضي؛ بل فقدت في سياق السعي لذلك الانتقام كثيراً من القيم التي ميزتها سابقاً. فالصين والهند ما زالتا تعانيان من نفس مظاهر عدم المساواة التي أقلقت أحد مفكري القارة عند زيارته لواشنطن منذ حوالي مئة عام! سعيد كامل الكتاب: من بين أطلال الإمبراطورية... التمرد ضد الغرب وإعادة تشكيل آسيا المؤلف: بنكج ميشرا الناشر: ألين لين تاريخ النشر: 2012