تميزت الألعاب الأولمبية التي استضافتها لندن هذا الصيف بزعامة الولايات المتحدة التي حصدت 42 ميدالية ذهبية، و108 ميداليات في المجموع، متقدمة على الصين التي حصلت على 38 ميدالية ذهبية، و87 ميدالية في المجموع. والواقع أن الندية التي تجمع هذين البلدين هي امتداد للتنافس الذي دار بينهما في أولمبياد بكين 2008 الذي تفوقت فيه الصين، مستضيفة الألعاب، باعثة بذلك برسالة تؤكد فيها تطلعها إلى أن تصبح القوة العالمية الأولى. واليوم، هاهي الولايات المتحدة تبعث برسالة في لندن مؤداها أنه مازال ينبغي الاعتماد عليها. وبالطبع، فإن التنافس بين العملاقين اقتصادي واستراتيجي، غير أن لديه امتداداً في الميادين الرياضية. وهو يذكّر بالتنافس الذي كان قائماً بين السوفييت والولايات المتحدة إبان الحرب الباردة. ولعل الفرق الوحيد هو أن التنافس بين الصين والولايات المتحدة أقل صدامية مقارنة مع ذلك الذي كان قائماً بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. غير أنه من حيث الصورة والمكانة، فإن الرهان مهم حقاً بالنسبة لهذين البلدين الكبيرين؛ حيث يضاف التنافس الرياضي إلى مسألة الزعامة الاقتصادية والسياسية، وهو تنافس سيستمر خلال السنوات المقبلة على الأرجح. ومن بين أبرز ما ميز هذه الألعاب هناك أيضا التقدم الرياضي الواضح الذي حققته بريطانيا، حيث مثلت هذه الألعاب نجاحاً مزدوجاً بالنسبة لها. ذلك أن لندن أثبتت نجاحها في تنظيم هذا الحدث الرياضي العالمي، وهو كان ما يمثل تحدياً حقيقياً قبل بداية الألعاب. وأعطت العالمَ صورة مدينة مضيافة ومنفتحة. كما أنه لم يتم تسجيل أي حادث ذي بال في وقت كانت فيه المخاوف كبيرة من إمكانية حدوث هجوم إرهابي. ومما لا شك فيه أن المسؤولين البريطانيين قد تنفسوا الصعداء بعد نهاية الألعاب؛ ذلك أن الإجراءات الأمنية نجحت، كما أنها لم تكن ثقيلة على المشاهدين والزائرين. وفي هذا الإطار، يمكن القول إن أي حدث رياضي معولم سينظم مستقبلاً في ظل مخاوف من وقوع هجوم ما؛ وإن الأمن سيستأثر بأكبر قدر من الاعتمادات المالية. ولكن أولمبياد لندن شكل أيضاً نجاحاً رياضياً لبريطانيا. فمع 29 ميدالية ذهبية، ارتقت هذه الأخيرة إلى المرتبة الثالثة، وهو ما لم يكن مضموناً قبل بداية الألعاب، متقدمة بذلك على روسيا. وقد ساهم حماس ودعم المشجعين البريطانيين بشكل كبير في النتائج الإيجابية التي حققها رياضيوهم؛ ولكننا نلاحظ هنا بالخصوص ثمار استراتيجيةٍ أكبر اعتُمدت غداة ألعاب أطلنطا 1996 التي شكلت إخفاقًا لهذا البلد. استراتيجية وفرت الإمكانيات، ولاسيما المادية، من أجل النجاح. وعموماً، فإن الشيء الوحيد الذي يعاب على الجانب التنظيمي ربما هو غياب مناطق خاصة بالمحبين والمعجبين، والثمن المرتفع للتذاكر. وإذا كان الفارق مع فرنسا يزداد اتساعا، فإن هذه الأخيرة حققت مع ذلك نتائج طيبة. ذلك أنها تحتل مراتب قريبة من كل من ألمانيا وإيطاليا، وهما بلدان أوروبيان بإمكانيات مماثلة. وبقدومها في المرتبة السابعة ضمن الترتيب النهائي بـ11 ميدالية ذهبية، فإنها احتلت مكانة مشابهة لتلك التي تحتلها في العالم اقتصادياً. وبالتالي، فقد جاءت في مرتبتها. واللافت أن الفرنسيين ظلوا متحمسين طيلة 15 يوماً حيث لم يبخلوا بالتشجيع على أبطالهم الذين أظهروا وجهاً مشرفاً. غير أن القول إن الدول الأوروبية كانت ستربح أكثر لو أنها وضعت ميدالياتها معاً من أجل الارتقاء إلى مرتبة الولايات المتحدة والصين أو التفوق عليهما هو فكرة غير منطقية، وذلك لأنه لو كان ثمة وفد أوروبي مشترك، لما استطاعت كل دولة أن ترسل نفس العدد الذي تشارك به اليوم من الرياضيين. وبالتالي، فإن حظوظ فوزها بميداليات كانت ستتضاءل نتيجة لذلك. ولعل أهم تقدم في ترتيب الميداليات هو ذاك الذي حققته كازخستان، التي تمكنت من احتلال المرتبة الثانية عشرة بفضل حصولها على 7 ميداليات ذهبية؛ حيث يمكن أن نلاحظ هنا التأثير الإيجابي لتركيز بعض البلدان على رياضات متخصصة بعينها، مثل رفع الأثقال في حالة كازخستان. ومن جانبها، تمكنت جاميكا، بفضل موهبة عدائها الأسطورة "أوسن بولت" والتأثير الإيجابي الذي يمارسه على بقية أعضاء وفد بلاده الذين يحاولون محاكاته، من احتلال المرتبة الثامنة عشرة، وهي مرتبة تُحسد عليها، ولكنها لا تمت بمرتبتها الاقتصادية في العالم بأي صلة. كما تميزت هذه الألعاب أيضاً بالجدل بشأن مشاركة الرياضيات السعوديات اللواتي ارتدين الحجاب. وإذا كانت المساواة بين الرجال والنساء داخل هذا الوفد ليست كاملة بالفعل، فإن حضور هؤلاء الرياضيات يمثل مع ذلك تقدماً. إنه تطور، ويشكل خطوة في الطريق الطويل للمساواة بين الرجل والمرأة في بلدان الخليج. كما أنه يمثل انتصاراً لروح الألعاب الأولمبية. أما أولئك الذي تعجبوا لمشاركة لاعبة الجودو السعودية، فهم مهتمون بانتقاد الإسلام أكثر من اهتمامهم بتقدم قضية النساء؛ حيث نلاحظ أن أحداً لم يتعجب بشأن الرياضيين الذين كانوا يقومون بإشارة الصليب قبل السباقات، أو بشأن حاملة الميدالية الذهبية الكوبية في الجودو التي كانت خصلات شعرها مكسوة بحلي ملونة. لقد أثبت نجاح هذه الألعاب والجو الاحتفالي الذي ساد حول المنشآت الأولمبية، مرة أخرى، أن التنافس بين الدول من خلال الرياضة قلما يتناغم مع العنف، وذلك خلافا لأطروحات بعض المنظرين المعادين للرياضة. كما مثلت الألعاب الأولمبية مناسبة لإبراز مشاعر وطنية إيجابية؛ فقد كانت ثمة مشاعر الفخر والاعتزاز بادية على المشجعين الذين رفعوا ألوان بلدانهم، ولم تكن ثمة أدنى مشاعر للعداء، حيث كان المجمع الأولمبي يسمح برؤية كل الأقمصة وكل أعلام العالم تقريباً في جو احتفالي قل نظيره. ومع حصول 87 بلداً على ميداليات، يمكن القول إن الألعاب الأولمبية تواصل عولمتها وتعدديتها القطبية.