خرج الفيلسوف الإغريقي ديوجينيس على الناس يوماً وهو يحمل بيده قنديلاً في وضح النهار، وجعل يبحث عن شيء بين الأزقة، فسألوه عن ذلك، فقال: أبحث عن إنسان، ولو عاش ديوجينيس إلى يومنا هذا لالتقى بالإنسان الذي كان يبحث عنه. كانت الدبابات الأميركية تتجول في شوارع بغداد، ومع هذا، فإن إعلان سقوط النظام العراقي السابق جاء على لسان الخمسيني "أبوتحسين"، الذي أخذ يضرب صورة كبيرة لصدام بنعاله أمام العالم، وهو يصرخ بحرقة: "يا ناس، لو تعرفون هذا إيش سوّا بالعراق؟". بقي هذا المشهد عالقاً في ذهني، فلابد أن "أبوتحسين" فقد ابناً في الحرب مع إيران، وآخر وُجد أسيراً في حرب تحرير الكويت، وهناك ثالث اختفى في أقبية المخابرات، وبقية الأسرة تشتت في أرجاء الأرض، لذلك كان غضب "أبوتحسين" بحجم حرقة قلبه. لكن بعد خمس سنوات، أجري لقاء صحفي مع "أبوتحسين"، فجّر خلاله مفاجأة من العيار الإنساني الثقيل، فقد قال: "ما بدر مني كان تعبيراً عن واقع حال مأساوي كابده العراقيون جميعاً على مدى ثلاثة عقود ونصف... وكان بمثابة لحظة انفجار غضب ظلّ مكبوتاً في صدري من هول ما رأيته وسمعته من مشاهد وقصص الموت والقتل والإبادة الجماعية التي مارسها النظام بحق الملايين من العراقيين الذين هم إخواني وأهلي وأبنائي". مضيفاً أحد أهم المعايير الإنسانية المفقودة: "رغم أنني لم أفقد أياً من أفراد أسرتي على يد النظام". وعلى عكس "أبوتحسين"، سأل مراسل صحيفة "واشنطن بوست" في دمشق شاباً، كان يقبض المال لفض المظاهرات المناوئة للأسد بالعصي الكهربائية، عن الأوضاع في دمشق بعد احتدام القتال في أحيائها، فقال: "كيف يمكنك العمل لحساب نظام يقصف ويدمر الحي الذي تسكن به؟"، معلناً عدم شعوره بأي ولاء تجاه النظام. وللأسف، تصرف هذا الشاب يتطابق مع تصرفات وأقوال الكثيرين من البشر الذين لا يبدؤون في التفكير إلا حين تدكّ القنابل أحياءهم، وينهش القتل أجسام أحبائهم، أما قبل هذه المرحلة، فإنهم أبعد ما يكونون عن مخلوق أكرمه الله اسمه "الإنسان"، وربما لم يكن موقف ذلك الشاب من المشاركة بقمع المظاهرات ليتغير إلى إعلان البراءة من النظام لولا اقتراب الخطر من بيته. ويبقى صدام في نظر الكثيرين، باستثناء الكويتيين، بطلاً وشهيداً، مثلما لا يزال حسن نصر الله، وربما بشار الأسد، بطلين في نظر قلة من العرب، من طائفة معينة. فعموم العرب لم يتأذوا من صدام مباشرة: لم يحتل أرضهم، ولم يقتل أهلهم، ولا يهم بعد ذلك ما فعل ببقية الناس. والأمر نفسه مع بشار، فهو لم يسلّط عصاباته على أبناء الثلة التي تدافع عنه، لذلك لا يزال الكثير منهم يسوّقون أباطيله أو يلتمسون له الأعذار. ومن سوء حظ القذافي أنه بطش بمواطني بلاده، وهم كلهم من أتباع مذهب واحد، وجلهم من عرق واحد، لذلك لا تسمع أحداً يترحم على القذافي، فلو كان مواطنو بلاده من مذاهب وأعراق شتى، لربما وجد من يضع الأكاليل على قبره ويقرأ الفاتحة على روحه. ليست مصادفة أن كلمة غالبية الناس اتفقت على اعتبار القذافي طاغية، وكذلك بن علي، ومبارك أيضاً، بينما صدام وبشار لا يزالان محل جدل، رغم أن الأمر واضح مثل الشمس، ولا يحتاج إلى قنديل ديوجينيس لرؤيته.