نعرف جميعاً أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة تُحسم بالفوز أو الخسارة، اعتماداً على القضايا الداخلية، وبالأخص تلك المرتبطة بالوضع الاقتصادي العام، لكن رغم ذلك من المهم لمرشحي الرئاسة الخوض في السياسة الخارجية والقيام بزيارات مهمة إلى الخارج أبرزها تلك الزيارة الكلاسيكية إلى إسرائيل لتعبئة أصوات اليهود في الداخل الأميركي. وفي هذا السياق جاءت الزيارة الأخير للمرشح الجمهوري، ميت رومني، إلى ثلاث دول هي بريطانيا وإسرائيل وبولندا، إلا أنه بدلا من تلميع صورته وتعزيز حظوظه كان لزياراته الخارجية مردود عكسي بعدما تحول رومني في أعين العديد من المراقبين إلى رجل أرعن تسابقت الصحف البريطانية إلى السخرية منه والتندر عليه، كما جاء في بعض العناوين مثل: "من وجه الدعوة لرومني؟"، و"ميت الأحمق"... وغيرها من العناوين التي تدل على مدى الاستياء الذي خلفته زيارته. وفي تعليق ساخر لأسطورة الألعاب الأولمبية الأميركي "كارل لويس" على زيارة رومني لبريطانيا، قال: "حقيقة، بعض الأميركيين يتعين عليهم ألا يخرجوا من البلد!"، وفي حالتنا هذه كان يجدر برومني البقاء حيث هو وعدم المجازفة بزيارة إلى الخارج جرَّت عليه كل هذا الكم من الانتقادات، فحتى قبل أن يصعد الطائرة أبدى رومني تخوفاً غير مبرر من استعداد بريطانيا لاستضافة الألعاب الأولمبية، وقدرة الجمهور البريطاني على دعم التظاهرة الرياضية، قائلا: "من الصعب معرفة كيف ستؤول إليه الأمور في لندن". هذه التصريحات كانت كافية لإثارة غضب رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، وعمدة لندن المحافظ بوريس جونسون، ودفعهما للتنديد بتعليقات رومني وانتقادها، ففي إحالة إلى ألعاب مدينة "سولت ليك سيتي" الشتوية للعام 2002 التي أشرف عليها رومني، صرح رئيس الوزراء البريطاني في هجوم مبطن على المرشح الجمهوري الأميركي، قائلا: "بالطبع من السهل تنظيم ألعاب أولمبية في مكان مجهول". وحتى بعدما وصل إلى لندن، توالت التعليقات غير الموفقة لرومني والتي أغضبت سكان المدينة وأثارت العديد من علامات الاستفهام. لكن الأسوأ من ذلك كانت زيارته إلى القدس المحتلة وقصرها على إسرائيل دون التعريج على الفلسطينيين ولا إيلائهم الاهتمام اللائق. فبعد أن جمع مبلغ مليوني دولار في لندن لحملته الانتخابية، تحدث رومني في زيارته لإسرائيل أمام 40 من كبار الأثرياء بفندق الملك داوود، ومما تحدث عنه التجربة الاقتصادية الناجحة لإسرائيل وتفوقها على الاقتصاد الفلسطيني، متناسياً على ما يبدو واقع الاحتلال الإسرائيلي من جهة ودوره في إعاقة نمو الاقتصاد الفلسطيني، والدعم الكبير الذي تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل ورعايتها لها في شتى المجالات من جهة أخرى. بل تمادى رومني في تفسيراته العجيبة عندما تطرق إلى العامل الثقافي وتفوق الإسرائيليين في هذا الجانب، ليختم سلسلة الهفوات قائلا أمام الجهور في إسرائيل: "إنها لتجربة غنية بالنسبة لي أن أتواجد في القدس، عاصمة إسرائيل". ومعروف أن أغلب البلدان الأعضاء في الأمم المتحدة لا تعترف بالقدس عاصمة للدولة العبرية، كما أن الولايات المتحدة، ورغم بعض الدعوات الداخلية بنقل سفارتها إلى القدس، احتفظت بها في تل أبيب باعتبارها العاصمة الفعلية لإسرائيل. وقد بدا رومني وهو يخوض في موضوع القدس الشائك كطفل صغير يقطع شارعاً مزدحماً بالسيارات غير واع بالخطر، وهو أمر لا يليق بمرشح لرئاسة الولايات المتحدة يروّج لنفسه باعتباره رجل دولة قادراً على قيادة قوة عظمى. وبالطبع لم تمر تعليقات رومني تلك دون رود فعل فلسطينية جاءت على لسان القيادي في منظمة التحرير الفلسطينية صائب عريقات الذي قال عن رومني: "هذا الرجل لا يدرك أن الاقتصاد الفلسطيني لا يستطيع تحقيق كامل إمكاناته بسبب الاحتلال الإسرائيلي، هذا الرجل يفتقد للمعلومات والمعرفة والرؤية والقدرة على فهم هذه المنطقة وشعوبها". واللافت أنه خلال زيارته للشرق الأوسط لم يطرح أي تصور جديد بشأن الأزمة السورية وما يجري هناك من عنف يهدد بزعزعة استقرار المنطقة، كما أنه لم يقل شيئاً عن المساندة الروسية لنظام الأسد في دمشق ولا تفوّه بشيء حول تركيا التي تعد أهم حليف أميركي ضمن حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ومع أنه تطرق إلى الموضوع الإيراني مشيراً إليه كخطر وجودي، إلا أنه أيضاً خرج على الإجماع في واشنطن بالقول إنه سيحترم أي قرار إسرائيلي بضرب إيران لمنعها من امتلاك السلاح النووي. وعندما وصل في جولته الخارجية إلى بولندا تلفظت مساعدته، "ريتش جوركا"، بكلمات بذيئة وهي تخاطب الصحفيين، مطالبةً منهم إبداء احترام أكبر للمرشح الجمهوري بعدما شعرت أن الصحفيين يستعدون لإمطار رومني بالأسئلة الحرجة التي تكشف مزيداً من تخبطه وعدم فهمه للسياسة الخارجية. وإذا كان رومني في الداخل يظهر في صورة الرجل عديم الإحساس والمنفصل عن واقع الأميركيين وحياتهم اليومية، لما يعيشه من ثراء فاحش يجعله بعيداً عن الناخبين، فهو في الخارج يمثل صورة الأميركي الذي لا يعرف ما يتحدث عنه ويحتاج إلى مزيد من الوقت لتعلم الخوض في قضايا السياسة الخارجية وتفادي الأخطاء، كما يمثل صورة الكارثة التي ستحل بأميركا إذا ما هو انتخب رئيساً لها. وفيما نأمل جميعاً أن تؤدي تلك الأخطاء إلى إجهاض فرصه في الانتخابات الرئاسية التي تفصلنا أقل من مائة يوم عن موعدها المحدد، إلا أني أشك في ذلك بالنظر إلى تأييد معظم الأميركيين لمواقفه، لاسيما تلك التي أعلن عنها في زيارته لإسرائيل!