لم تزل جماعة الإخوان المسلمين تتبع نهجاً مزدوجاً في خطابها ومواقفها، واحدٌ مضمرٌ حيث التنظيمات السرية وآخر معلنٌ حيث خطاب المهادنة، تستخدم هذا النهج المزدوج تجاه فرقاء الداخل من التيارات والأحزاب كما تفعل مع الدول الأخرى. واليوم، وقد استلموا رأس السلطة السياسية في بلدين عربيين وهم يتأهبون في غيرهما من دول الاحتجاجات ويلاعبون دول الاستقرار لحاجاتهم الماسّة ويرسلون رسائل الطمأنة لكل مؤثرٍ في العالم من الغرب إلى الشرق ومن إيران لدول الخليج، فذلك لأنهم لم يحسموا خياراتهم ولم يرتاحوا في الحكم بعد ولم يكملوا استحواذهم على الدولة في البلدين. كان خطاب الإخوان المسلمين مبنياً على المعارضة بشعاراتها وآيديولوجيتها ولطالما عابوا على الدول العربية وحكوماتها التعاون مع الغرب تحت شعارات الغرب الحاقد والمؤامرة الصليبية ونفاق الأنظمة العربية، ولكنّ هذه الشعارات تبخرت تماماً حين استلموا السلطة فباتت رموزهم تلتقي كبار الساسة الغربيين بالابتسامات والترحاب. وكثيراً ما عاب الإخوان المسلمون على الأنظمة السابقة مواجهتها الأمنية ضد الإرهاب والتخريب وكانوا يعتبرون ذلك من قبيل الظلم والديكتاتورية، وها هم حين استلموا الحكم واستقروا على كراسي السلطة يمارسون الأمر ذاته وإن بعنفٍ أشدّ ولكنّهم يقدمون كل التبريرات التي تدعمه. ولطالما أعلن الإخوان في المعارضة رفضهم القاطع لمعاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل، ووضعوا فيها كل عيوب الدهر ومحرمات الدين وخيانات السياسة، وقالوا فيها ما لم يقل مثله مالك في الخمر، واغتال بعض أتباع خطابهم السادات لتوقيعه عليها، وها هم اليوم يدافعون عنها بكل ما أوتوا من قوةٍ، ويقومون فعلياً بحماية أمن إسرائيل قدر ما يستطيعون حتى وإن أدى بهم ذلك لإحكام الخناق على قطاع غزّة. في مصر يستمر الجدل السياسي والتاريخي بين شرائح الشعب المصري الذي أحسنت جماعة الإخوان تدجين بعضهم من عناصرها وكوادرها والجماعات الإسلامية الأخرى، ولم تزل فيه شرائح أخرى تعبّر عن الرفض التام لآيديولوجيا الإخوان وتوجهاتهم السلطوية التي يغلّفونها باسم الدين والإسلام، وكم سعى الإخوان المسلمون ليقنعوا أتباعهم صراحة أو مداراةً بأنّ الإسلام هو جماعة الإخوان وأن مستقبل الجماعة هو مستقبل الدين، فحسن البنّا تحدّث كثيراً عن الجماعة باعتبارها الإسلام وطبّق آيات القرآن التي تحكي عن الإسلام على جماعته. ولحقه على ذلك أتباعه حيث كانوا ينزلون النصوص النبوية الواردة عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على مرشدي الجماعة، وكان سيّد قطب يتحدّث عن "مستقبل هذا الدين" ولا يعني به شيئاً أكثر من مستقبل جماعات الإسلام السياسي. إنّ جماعة الإخوان بمصر لم تزل تستفيد من إرباك المشهد السياسي وإشغاله بشتى الأحداث التي تخلقها أو التي تستفيد من وجودها بحكم انتشار الفوضى وتفشي الشعارات وإدخال كثيرٍ من الشرائح المتحمسة والجاهلة إلى صلب المشهد العام، وهي تستفيد من ذلك للإبقاء على قدرتها على منع كثيرٍ من الناس من رؤية التناقضات الكبرى التي ترتكبها بحكم أنها أصبحت قوةّ سياسية تقود الحكومة ولا تمارس مزايدات المعارضة، وستركب أكثر منها في مقبل الأيام. تمثل أحداث سيناء الأخيرة نموذجاً كاشفاً في هذا السياق حيث قامت جماعة إسلامية متطرفة بعملية عسكريةٍ تجاه الحدود المصرية الإسرائيلية وقع فيها قتلى من الجيش المصري وكان ثمة شبهة ما لتعاونٍ تمّ مع المتطرفين الإسلاميين في غزة لتنفيذ هذه العملية الخطيرة، وبغض النظر عن تفاصيل الملابسات الكاملة لما جرى فإن القرار السياسي المصري الذي تستحوذ عليه جماعة الإخوان المسلمين قد اتجه بقوةٍ وحماسةٍ لفعل ما كان النظام السابق بمصر يفعله تماماً أي تطمين الغرب تجاه الاهتمام بأمن سيناء والمحافظة على المعاهدة السياسية مع دولة إسرائيل، وبذل كافة الجهود للقضاء على هذه الجماعات الإسلامية المتطرفة وأخذ الإذن من إسرائيل في إدخال طائراتٍ إلى منطقة سيناء لمطاردة المتطرفين التزاماً بالمعاهدة، ثم قامت بأمرٍ لم يفعله النظام السابق بهذا الحجم وهذا الشمول وهو القضاء المبرم والتدمير الكامل لكافة الأنفاق مع قطاع غزة وحكومتها الإخوانية، وذلك عكساً وضداً لكل شعارات الإخوان السابقة التي كانوا يهاجمون بها النظام السابق ومواقفه تجاه حكومة الإخوان في غزة وذلك تحت غطاء عداء إسرائيل ودعم القضية الفلسطينية. استبدل الإخوان "الحزب الوطني" بـ"الحرية والعدالة"، ثم أخذوا يطبّقون نفس سياسات الوطني ولكن لخدمة جماعتهم وحزبها الجديد، فخداع الشعب والضحك على الشباب الثائر واستخدام الكذب والمراوحة بين الخطاب المضمر والخطاب المعلن كلها أسلحة في ذات الطريق، وكم تناقضت مواقفهم المعلنة التي لا يلبثون أن يغيرونها خلال ما يزيد على العام ونصف العام تجاه الانتخابات النيابية أو الرئاسية وغيرها من أكاذيبهم الشهيرة والمعروفة. وفي تطورٍ لعمليات الاستحواذ على كل مفاصل الدولة اتجه نهم الإخوان للاستحواذ على بقية مؤسسات الدولة بعد الظفر بالرئاسة، فهم يحاولون التغلغل في مؤسسة الجيش والشرطة وغيرها من المؤسسات الأمنية، وهم يسعون للتغلغل في المؤسسة القضائية وتحريك أي أتباعٍ لهم هناك وهي وإن كانت مهمة شاقة لأنّ المؤسسة القضائية لا يسيطر عليها بالانتخابات وتهييج الشارع إلا أنّهم يهاجمونها حين تفترق الطرق معها ويحاولون إضعافها، وهم سيتجهون للاستحواذ على مؤسسة الأزهر الشريف وذلك بغرض السيطرة التامة على المؤسسة الدينية التقليدية العريقة بمصر. كذلك فإنّ الصحافة القومية بمصر ومؤسساتها العريقة تمثل لقمة يقطر لها لعاب الإخوان المسلمين وهم يسعون للسيطرة عليها بأي شكلٍ، وهو ما عبّر عن رفضه كثيرٌ من صحافيي مصر بأكثر من طريقةٍ وأسلوبٍ، فتظاهر بعضهم أمام مجلس الشورى وخرجت بعض أعمدة الكتّاب في الصحف بيضاء لم يكتب فيها حرفٌ واحدٌ. ولم تكتف الجماعة بهذا الأسلوب ولكنّها بدأت في السعي لتكميم أفواه الإعلام ومحاصرة الإعلاميين وذلك عبر المحاكمات التي كانوا يتهمون النظام السابق بتلفيقها وتوسيعها ضدّ الصحفيين، أو عبر طرقٍ جديدةٍ اخترعوها هم من مثل قطع الطرق ومن ذلك محاصرة مدينة الإنتاج الإعلامي عبر عناصرهم الذين نقلوهم بوسائل نقلٍ خاصةٍ مكّنت كثيراً من الأتباع من الوصول إلى تلك المدينة النائية ومنع الإعلاميين من الوصول لأماكن عملهم، وتهديد الموجودين بداخل المدينة عبر تكسير السيارات وغيرها من أعمال البلطجة والترهيب. أخيراً، ما أشبه الليلة بالبارحة، قد تتغير الأحزاب والوجوه، وتبقى قوة التاريخ ومنطق الواقع فتطوّر الأمم ليس شعاراً يرفع ولا حماسة تنتشي في هذه اللحظة أو تلك ولكنّه تنمية طويلة وعملٌ شاقٌ ومرهقٌ.