يقولون إن السياسة حاضرة على الدوام في كل محفل، وحتى في الرياضة، فقرار اختيار المدينة التي تستضيف كأس العالم أو الألعاب الأولمبية ليس بريئاً من ضغط ووزن الدولة وحضور السياسة فيه! مثلاً، لماذا احتكار أميركا وأوروبا -والغرب عموماً- لاستضافة هذه الفاعليات لمدة عقود؟ ولماذا أدخل الغرب أنواعاً من الرياضة برع فيها في بداية الأولمبياد؟ وفي الأولمبياد الراهن أرسلت 205 دول أكثر من 10 آلاف رياضي للمشاركة في 300 نوع من أنواع الرياضة، في لندن، التي تستضيف للمرة الثالثة في تاريخها تظاهرة رياضية كهذه، هي الأكبر في التاريخ! والحال أن ألعاب الأولمبياد كلها سياسة ووطنية وهي ترجمة وتعبير عن القوة المرنة للدولة وإنجازاتها الحضارية.. ولم يعد حجم الدولة وعدد سكانها هو العامل الحاسم في حصد الذهب أو الميداليات. فدول كبيرة لم تحصد ميدالية واحدة في هذا الأولمبياد، فيما أستراليا وكوريا الجنوبية وقطر والكويت وجامايكا وسنغافورة حصدت ميداليات متعددة، أكبر من حجم تلك الدول مقارنة مع الدول الكبيرة والغنية. ودول كبيرة أخرى مثل السودان ونيجيريا وإندونيسيا لم تحصد ميداليات! والبرازيل وتركيا والأرجنتين لم تحقق نتائج تعكس قدرات ومكانة تلك الدول، بينما حققت دول محاصرة ومنبوذة مثل إيران وكوريا الشمالية إنجازات -وإن كانت في أنواع معينة من الرياضة- تعكس تصميمهما وإصرارهما. ومن 205 دول شاركت في أولمبياد لندن، فازت حتى كتابة هذه المقالة 75 دولة بميداليات، ما يعني أن ثلثي الدول المشاركة لم تفز حتى بميدالية برونزية واحدة، بينما السباح الأميركي مايكل فيلبس فاز بـ22 ميدالية بينها 18 أولمبية خلال مسيرته الرياضية القصيرة. ويظهر تفوق أميركا في الأولمبياد كونها الدولة التي حصدت أكبر عدد من الميداليات أكثر من أي دولة أخرى. وفي أولمبياد لندن، تحتل الولايات المتحدة الأميركية المرتبة الأولى وقد حصدت حتى الآن أكبر عدد من الميداليات الذهبية (41) وكذلك بمجمل عدد الميداليات التي تقترب من 100 في شتى أنواع الرياضة. تليها الصين، فبريطانيا الدولة المضيفة، التي لا أدري لماذا تصر على تسمية نفسها "بريطانيا العظمى"! إن السياسة تدخل وتؤثر في الكثير من المعطيات والظواهر، من اختيار الدولة المضيفة، كما أسلفنا الإشارة، إلى التنافس في ارتداء الملابس التي تحمل علم الدولة، ومن تمثيل الرياضيين في تنافس ليس شخصياً بقدر هو تمثيل لدولهم. واللحظة الحاسمة هي عند توزيع الميداليات الذهبية والفضية والبرونزية على الفائزين الثلاثة في كل رياضة، فيما يتم عزف النشيد الوطني. وتركز الكاميرا على العيون الدامعة الشاخصة إلى العلم الذي يرتفع في سماء القرية الأولمبية. وهذه قمة الوطنية وعمق الانتماء. إن الأولمبياد إذن مثل تصفيات كأس العالم لكرة القدم -أو كما تعرف اختصاراً بـ"كأس العالم"- هو شأن سياسي بامتياز، وبالدرجة الأولى. وعندما أطلق هذه الألعاب الإمبراطور الروماني ثيودوسوس في عام 776 قبل الميلاد كان هدفه سياسياً أيضاً. ومنذ عودة الألعاب الأولمبية الحديثة في اليونان في عام 1896 لم يغب البعد السياسي عنها كذلك. وقد توقفت في الحرب العالمية الثانية بسبب فداحة الحرب. وهيمنت عليها أوروبا ثم أميركا وروسيا. وقد دفعت ثمن استقطابات الصراع الأميركي- الغربي- الرأسمالي من جهة ضد الاتحاد السوفييتي الشرقي- الشيوعي من جهة ثانية. والتنافس بين القطبين يومها لم يكن حول عدد الميداليات الذهبية والكلية للروس والأميركيين! بل كان حول السياسة الدولية والحرب الباردة والاحتواء ووقف التمدد. فأميركا مع ستين دولة قاطعت الألعاب الأولمبية في موسكو عام 1980 بعد الغزو والاحتلال الروسي لأفغانستان. وردت روسيا وحلفاؤها الشيوعيون المعاملة بالمثل بمقاطعة الألعاب الأولمبية بعد أربع سنوات في لوس أنجلوس! فخلت الألعاب الأولمبية من التنافس التقليدي المحموم بسبب ذلك. واليوم لم يعد التنافس على حصد أكبر عدد من الميداليات الذهبية ومن مجموع الميداليات بين الأميركيين والسوفييت كما كان الحال في الحرب الباردة، بل أصبح بين أميركا والصين في تنافس محموم آخر على القوة الناعمة لا يخلو من البعد السياسي. ومن سوابق البعد السياسي للأولمبياد أيضاً طرد جنوب أفريقيا ومنعها من الألعاب الأولمبية بسبب سياسة الأبرتايد والتفرقة العنصرية ضد الأغلبية السوداء، في عهد نظام الفصل العنصري هناك. كما أراد هتلر تسييس الأولمبياد في ميونيخ عام 1936 لإظهار تفوق ألمانيا ومكانتها العالمية وتفوق العرق الآري حسب نظريته الخرقاء. ولكن فوز العداء الأميركي جيسي أوين الأسود بأربع ميداليات ذهبية ضرب نظرية هتلر في الصميم وأثبت خواءها! فقاطع هتلر حضور توزيع الميداليات. ولم تعقد الألعاب الأولمبية أثناء الحرب العالمية الثانية! وعاد أولمبياد 1972 في ميونيخ مرة ثانية، ليدفع بالصراع الفلسطيني- الإسرائيلي للمسرح الدولي بعد اختطاف وقتل رياضيين إسرائيليين على يد فدائيين فلسطينيين. وعندما لم يكن نجم الصين وقوّتها الناعمة قد برزا، ولم تكن قد فرضت نفسها بعد على الساحة الدولية، أتت خسارتها في استضافة الألعاب الأولمبية لصالح أستراليا في عام 2004 كبعد سياسي أكثر منه تنظيمياً. ولاحقاً تم الاعتراف بالصين كأول دولة من الدول ذات الاقتصادات الصاعدة استضافت الألعاب الأولمبية في إقرار واضح بصعود العملاق الآسيوي وقوته الناعمة على المسرح الدولي. والملفت أن الصين حصدت أكبر عدد من الميداليات الذهبية في أولمبياد عام 2008 مقصية بذلك الولايات المتحدة الأميركية عن عرشها الأولمبي. وهي التي حصدت كدولة أكبر عدد من الميداليات، كما أنها أكثر دولة استضافت مدنها الكبيرة الألعاب الأولمبية بنسختيها الصيفية والشتوية. ولا ننكر أيضاً قوة التأثير السلبي والإيجابي للرياضة في السياسة، في حالات أخرى عديدة، فقد اندلعت خلافات وحروب في أميركا اللاتينية، ووقعت اضطرابات بين دول عديدة أخرى، أشعلتها منافسة رياضية وخاصة في مجال كرة القدم. ولكن للرياضة قوة تأثير إيجابية أيضاً، فقد رأينا كيف وحدت الرياضة الناس وأوقفت الحرب في ساحل العاج. ورأينا التفاف الشعب نحو الوطنية الجارفة في الكويت في الأسبوع الماضي، عند فوز الرامي الكويتي فهيد الديحاني بالميدالية البرونزية، حيث أتت الميدالية الأولى للكويت في الأولمبياد لتوحد شتات القوى السياسية وتلملم شعث الخلافات الطائفية والمناطقية والسياسية، فسارع النواب والقوى السياسية للإشادة بذلك الإنجاز، خاصة أنها لم تكن ميداليته الأولى في الأولمبياد... وتم استقباله استقبال الفاتحين الموحدين من القيادات العليا في الدولة... والرياضة في هذه الحالة كانت عامل توحيد وتجميع.. وليست وسيط تقسيم وتشتيت. والحاصل أن السياسة ستبقى لاعباً مؤثراً في الرياضة، وستبقى الرياضة عاملاً يجمع أو يفرق حسب ظروف وأوضاع الدول والمجتمعات. وستبقى ثنائية السياسة والرياضة دائمة، حيث تتقاطعان وتؤثران في الدول والشعوب، طالما استمر التنافس والصراع والخلافات في معارك على أرض الملاعب وعلى مسرح السياسة.