منذ أواخر القرن العشرين وحتى اليوم، ترزح الشعوب العربية تحت حكم أنظمة "جمهورية" عنوانها "الحركي" الأساسي: "الزعيم الأبدي الملهم" الذي يرى أنه الوحيد الذي يفكر، والوحيد الذي يقرر، والوحيد الذي يأمر وينهي ويحل ويربط. والحال كذلك، بات شعار الجماهير العربية، ظاهرياً على الأقل: "ليلى على دين قيس فحيث مال تميل، وكل ما سر قيسا فعند ليلى جميل". فأصبح الزعيم "مؤمنا" أو "مدمنا" على مقولة: نعم الشعب يحبني، في ظل "فكر" بوليسي أمني يهيمن عبر أجهزته (الأقوى بين كل الأجهزة وبقايا المؤسسات في المجتمع) على الجميع ويرعب كل من تسول له نفسه مجرد التفكير بأن شيئاً ما ليس على ما يرام. وفي التاريخ العربي الحديث، قرارات ومغامرات اتخذها الزعماء واعتبرها العقلاء "مجنونة". ورغم ذلك، قيل للداخل وللخارج إن الشعب هتف وهلل لها، واعتبرها من معجزات هذا الزعيم أو ذاك، مع أنها في حقيقة الأمر، ساهمت في تحويل أفراد هذه الشعوب العربية إلى مرضى، كحال الدولة العثمانية في آخر أيامها: شعوب فقيرة لا تملك قوت يومها، تهلل وتشكر الله الذي أنعم عليها بقائد "همام"، فيما قادة الأجهزة الأمنية يقدمون التقارير اليومية، باعتبارهم العين "الساهرة" على راحة الزعيم، وليس الوطن كما في الدول الحقيقية، مؤكدين أن الشعب، كل الشعب، لا يطلب سوى بقاء الزعيم، فهو ثروتهم الحقيقية وقوت أولادهم الذي يسمنهم مجرد ذكر اسمه ويغنيهم من جوع. فالكلمات تعجز، والقلم يحتار لتبقى كلمات الزعيم والتعبيرات التي ينطوي عليها خطابه، أهم ما يلفت الباحثين والمؤرخين من أتباعه. فبالنسبة لهم، كلماته تعكس "نموذج" العلاقة التي تربط الزعيم بشعبه وتبقى مثلا ودليلا على نظرته الفوقية إلى المحكومين وتعاطيه مع شؤونهم وشؤون الوطن الذي يتولى مسؤوليته، ويتحمل "الأمانة" في رعاية مصالحهم! لكن، هل الزعيم ما قبل "الربيع العربي"، الذي يتحمل أوزار الخطايا والنكبات من جهة، وصاحب كل الأوسمة والإنجازات والانتصارات من جهة ثانية، هو حالة مستقلة عما حولها؟! ونسأل أيضاً: ما هي صفات الزعيم الأبدي الملهم هذا؟! بل، تحديداً، ما هي صفات الدولة التي تنشأ تحت حكم زعيم كهذا؟ هنا، يأتي الجواب المركب: هي دولة قوامها: منع حرية الرأي والتعبير، استشراء الفساد، نهب الخزينة العامة من قبل رموز السلطة ضمن سياسة تقليدية ثابتة لا جهد لإيقافها، احتكار الأقارب وشركاؤهم للفعاليات الاقتصادية المهمة، تضخم نسب البطالة، تنامي الغلاء بشكل "متدفق" غير منضبط ولا منسجم مع متوسط دخل الأكثرية الساحقة من المواطنين، مع ممارسة الإرهاب الأمني ضد الشعب، والعمل لموالاة الجيش والقوات المسلحة وصولا إلى موالاة الزعيم شخصياً بدل ‏موالاتها للوطن والشعب كحال كل جيوش العالم. نستطيع أن نتصور حجم الخراب الذي تحدثه هكذا أنظمة عبر أنّات الشعوب المقهورة طوال عقود من الكبت والسكوت على مضض تحت وابل خطابات وشعارات محاربة الاستعمار التي أتقنتها هذه الأنظمة، والتي مثلت بشكل أو بآخر "استعماراً داخلياً" استطاع إلحاق الضرر بالشعوب والأوطان بطريقة أشد فتكاً، عبر تغييب مؤسسات المجتمع المدني، محاربة التجمعات السياسية، استباحة البلاد والعباد، تشريد المعارضين وقتلهم، مليارات الدولارات المسروقة، انتهاك الدستور والقانون، حرمان المجتمع من العمل الطوعي والخيري، محاربة كل مظاهر التعاون الأهلي، إهمال المرفق الصحي وانهيار بناه ومؤسساته. وفي خضم كل هذا، وبعد أن خلا العالم العربي من النخب والزعامات والأحزاب الشعبية الحقيقية، انتفض الإنسان "العربي الجديد" من رحم أنظمة الاستبداد والفساد. إنها عودة العربي إلى الفعل وتقرير المصير بعد أن استوطن هذا المصير مستبدون أصروا على استبدادهم. وإن كان الشاب التونسي محمد البوعزيزي هو من أشعل فتيل دوامة التحول العربي الذي طالت شرارته كثيراً من أرجاء العالم العربي، فإن قواسم مشتركة تجمع هذا العالم، بعد أوصدت كثير من أنظمته أبواب الحوار في وجه الشباب حين صم رؤساء الجمهورية آذانهم فلم يعوا جدية المطالب الشبابية، وآثروا التمسك بدكتاتورية الأنظمة وفسادها، فأدرك الشباب العربي أنهم محرومون من الإحساس بالأمان والانتماء، والتقدير والاحترام. ورغم أن كل ثورات التاريخ العظيمة قادتها رموز ملهمة وأسست لها نخب من نوع خاص، فقد انتفض العربي وحده وأصبح أمهر حفار قبور لأنظمة غيبته وتاجرت بمصيره ووجوده ليكون هو الرمز الملهم والمعلم لكثير من النخب والقيادات. وكان ذلك بعد أن تخلت قيادات المعارضة التقليدية عن الاضطلاع بأدوارها الأساسية، فأدى ذلك إلى ظهور "قادة رأي جدد" أسهموا في دعم موجة التغيير السياسي، انطلاقاً من مناصرتهم للتحديث لاسيما بين الشباب في ظل ما يشبه الإجماع على أن النخب المثقفة لم يكن لها أي دور حقيقي في "الربيع العربي"، ووجود أزمة وسط النخب العربية ساهمت العوامل السياسية المتسارعة في خمولها، مع تأثير "النزعة الدينية" على هذه النخب، فتراجع أداؤها المؤثر في المجتمعات العربية. ويقول الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو: "إن لكل إنسان الحق في أن يغامر بحياته في محاولة منه لإنقاذها". لقد انتهى عهد النخب القديمة، ذلك العهد الذي انتهى كان فيه الزعيم يستطيع تطويع النخب التقليدية والحديثة أو تصفيتها بالسجن والنفي والقتل... بعد أن تحول الشعب كله في وقتنا الحالي إلى "نخبة"، هي عبارة عن جيل من الثوار لا يستطيع أي نظام في الكون تطويعه، رغم قوى الشد العكسي التي ما زالت فاعلة بكل ما أوتيت من إمكانات ووسائل، حيث تعمل ليل نهار لإجهاض مساعي "الإنسان العربي الجديد"، وذلك عبر قيامها بمحاولات لا تنتهي من خلط الأوراق. إنها قوى الشد العكسي التي تخشى التغيير، وترغب بقاء الحال على ما هو عليه، لكن هيهات لها أن تنجح، فالمؤكد أن الإنجاز الأكبر لـ"الربيع العربي" يتجسد في كسر "حاجز الخوف" مقروناً برفض الاستبداد المغموس في الفساد!