لم يعد ما يحدث في سوريا أزمة قابلة للحلول الوسطى، لقد صار كارثة كبرى تهدد الشعب كله بل المنطقة كلها، ولا أفهم كيف غابت الحكمة في المعالجة حتى تطورت مطالب الشعب التي كانت بسيطة وممكنة التحقق بأقل التكاليف، إلى حريق يأكل الأخضر واليابس ويدمر الحياة ويمزق الشعب الذي كان على مر الزمان يعتز ويفخر بوحدته الوطنية. ويبدو أن الحلول السياسية أغلقت أبوابها، وقد تجاوزت الأحداث كثيراً مما كنا نأمل أن يحدث، ولم يعد الحكماء قادرين على التفكير بحلول وسطى، وهذه الحالة الثنائية الحادة تفتح الصراع على المجهول المرعب، وتنذر بتحول سوريا إلى أرض يباب. لقد كنت أتفاءل بالحلول الوسطى قبل أن يصل العنف إلى ذروة غير مسبوقة، كنت أظن أن بالإمكان دمج حلين تمكنا من إيقاف شلال الدم في مصر وفي اليمن، كان الحل المصري يبقي على جسد النظام (في إطار الدولة) ويتيح للجيش أن يحافظ على مكانته وقدرته على ضبط أي انفلات أمني وعلى سيادة الوطن، ويتيح للشعب الثائر أن يحقق أهم مطالبه، وهو الديمقراطية التي تحتكم إلى صناديق الانتخاب ويفوز من ينتخبه الشعب، وتبقى للجيش مواقعه عبر المجلس العسكري. وفي الحل اليمني كان التدخل العربي لصالح حقن الدم، عبر ضمانات للرئيس، وعبر برنامج توافقي. كنت أرى أن نصف الحل المصري مع نصف الحل اليمني يصلحان معاً لتكوين حل سوري، فلابد من التفكير بضمان وحدة الجيش أولاً، لأن أخطر ما يحدث في سوريا هو انفراط عقد الجيش بعد كثرة الانشقاقات فيه، وهو العمود الفقري لجسد الدولة. وأدرك أن الوضع الراهن يجعل الإخوة الأعداء يتصرفون بالفعل وردة الفعل، وأدرك أن الكثرة المطلقة من جنود الجيش وقوى الأمن تنفذ الأوامر ولا تملك فرصة لنقاش فيها، وكثير من الجنود والضباط وجدوا أنفسهم في ورطة، فلا هم قادرون على رفض الأوامر، ولا هم قادرون على النجاة بأنفسهم من هذا الجحيم الذي صاروا وقوده، ومن انشق منهم وتمكن من النجاة بنفسه صار متهماً بالإرهاب ملاحقاً بالإعدام، ولم يعد أمامه سوى أن ينخرط في الجحيم ذاته. ولكم يبدو مفجعاً ومأساوياً أن يقتل جندي رفيقاً له كان معه في خندق واحد قبل أيام يتشاركان الحياة، ولكن كلاً منهما صار اليوم في خندق مواجه، يصوب بندقيته نحو الآخر. وعلى رغم أهمية تحديد المسؤولية عن هذا الانهيار المريع الذي حصل، إلا أن الأهم الآن هو إيقاف النزيف، والتوقف عن القتل المجاني الجماعي، وعن هدم المدن والقرى والمنازل، ولاسيما فيما يحدث من قصف عشوائي، لا يميز حتى بين معارض ومؤيد. تمنيت لو أن مجلساً عسكرياً يتولى مسؤولية الإنقاذ ويضم قادة من الجيش النظامي مع قادة ممن انشقوا عنه، في قيادة جماعية تحقن الدم السوري، وتقود المرحلة إلى صناديق الانتخاب ولتقرر الصناديق مستقبل سوريا. وبالطبع ليس ممكناً الآن تحقيق ذلك، فقد اتسعت الهوة بين الفريقين، فالسلطة ترى أن المنشقين عملاء متآمرون يجب قتلهم، والمنشقون الذين لا يجدون مخرجاً مما باتوا فيه سوى الإصرار على متابعة ثورتهم وقد صارت المعركة معركة قاتل أو مقتول، ومهما يكن عدد المنشقين ضئيلاً بالقياس إلى أعداد الجيش النظامي فإنهم يعدون اليوم بعشرات الآلاف، وما أظن عاقلاً يفكر بقتل عشرات الآلاف أو يعتقد حقاً بأنهم خونة وعملاء، ولاسيما أنهم في الغالبية ينتمون إلى الجيش العقائدي الذي انشقوا عنه، وكان أحدهم حتى قبيل انشقاقه قيادياً في الجيش النظامي. وأعتقد أن مزيداً من الخطأ في تشخيص الحالة سيقود إلى مزيد من الدمار وسيرشح الوضع إلى حرب أكثر تدميراً للحياة في سوريا ولن يحقق التدمير نصراً، وما من أحد بوسعه أن يزهو بانتصاره على جثث أبناء شعبه. ولن يكون خياراً معقولاً كذلك أن يصير هدف الجيش المنشق تدمير الجيش النظامي، فالطرفان أبناء جيش واحد، جعله الظرف الراهن جيشين متصارعين، وكذلك لم يعد ممكناً بعد كل ما حدث من طوفان دم، أن تتوقف الثورة التي بدأت سلمية ثم صارت دموية، دون أن تحقق شيئاً. لابد من حلول جريئة يفتدى فيها الشعب السوري، فالخطر المحدق بسوريا اليوم غير مسبوق في كل تاريخها القديم والمعاصر، وأشده خطورة على المستقبل احتمال تدخل خارجي سيكون مأساة كبرى بعد عقود من الاستقلال. وأنا أدرك أن من طلبوا تدخلاً أجنبياً من المعارضين لا يريدونه في حقيقة أنفسهم، وبعضهم يختنق بما آل إليه الحال، وقد سدت في وجهه طرق الخلاص، ولا أتهم أحداً من أبناء سوريا الشرفاء بخيانة أو تآمر على وطنهم، وكان الخطأ الكبير أن يستبعد المعارضون السياسيون وألا يشركوا في حل مأساة الوطن، فإن وجد بينهم من ضل الطريق، فالأكثرية المطلقة وطنية مخلصة، والمفارقة أن النظام يعترف بأحقية ما يطلب المتظاهرون والمعارضون من حرية وكرامة، ولكن تحقيق هذه الحرية كان يتطلب تقديم تنازلات كبيرة للشعب، وهو الأجدر بأن يفتدى وأن تقدم له مطالبه وحقوقه. والخطر الثاني هو أن يتعمق بين أبناء الشعب هذا الشعور بالانقسام بين مؤيد ومعارض، وهم أبناء أسرة سورية واحدة، وقد وصل الأمر لدى بعضهم إلى فرز طائفي بغيض، أخشى إن ترسخ أن يرسم مستقبلاً أشد قتامة من الحاضر، ولم نكن في سوريا نعيش هذه المشاعر يوماً، ويبدو مفجعاً أن يفكر أحد من السوريين بالتقسيم، لأن مجرد التفكير به، سيعني حرباً قد تطول مئة عام، وتحصد أرواح الملايين في سوريا، فوحدة تراب الوطن (للجميع) من أهم الثوابت التي لا تقبل نقاشاً وليست موضع أخذ ورد. وكذلك من الأخطار المريعة أن يفكر أحد بالمحاصصات الطائفية على غرار ما يحدث في لبنان، والتجربة فيه تثبت عقم هذا التفكير الذي جعل الدولة في لبنان شبه معطلة عقوداً، ولا يملك اليوم أحد حلاً غير من بيده الأمر ليوقف هذا الدمار المروع الذي بات كثير من السوريين يعتقدون أن بعض المجتمع الدولي يسر به، وقد جاءهم خلاصاً من سوريا القوية دون عناء، وما أسعد الأعداء حين يرون سوريا تحترق!