يستغرب المرء من الانكماش في عقل السلطة العربية؛ فهي اليوم تمارس كل القمع لأجل الحفاظ على بقائها، رغم أن سلطة المستبد قد اندحرت في ليبيا ومصر وتونس... فذلك لم يمثل درساً لمن يمارسون القمع والاستبداد في سوريا! فما السبب وراء ذلك؟ السلطة لها ملامحها وركائزها النفسية، شأنها شأن ما نطلق عليه سيكولوجية الجماهير على سبيل المثال. فالتاريخ الثقافي للمنطقة العربية عرف تجذراً لقيم الاستبداد، والخلاص من هذه القيم ليس بالأمر الهين، وهذا ما يفسر تجاهل المطالب الإنسانية في سوريا والاستمرار في القمع هناك، لأن بريق السلطة له تأثيراته ومغرياته ويشكل دافعيةً قويةً لقتل كل من يناهض السلطة. المستبد، في التفسير النفسي، لا يرى إلا نفسه، فهو منقطع عن التفاعل مع الواقع. وكثير من الدراسات في مجال تحليل شخصية المستبد لاحظت أنه عاش تجارب نفسية مأزومة تربت وكبرت معه ومن ثم تخرّج بسلوك مرضي ينحو نحو الاستفراد بالقرار وغياب الوعي وتضخم في الذات. فالقذافي ما كان يشعر بالعوالم المحيطة به، وكان يصرخ مردداً بأنه ليس قائداً ولا حاكماً ليرحل، مما يؤكد حالة مرضية. فعقل الرجل لم يكن يسعفه في فهم ما يحدث من حوله، إذ كان يعيش حلم عالمه الخاص الذي يرى الأشياء من خلاله. فهو من كان يرتدي اللباس المزركش، ويضع القفاز الأبيض في يده، وهو من أخذ ناقته إلى أوروبا ليشرب حليبها، وكذلك خيمته التي كلّفت أكثر من ستة ملايين دولار... وكلها أشكال مختلفة من الجنون الذي كان يعيشه القذافي. لقد كان مغيّب العقل ولا يشمئز من سلوكه لأن الذات عنده متضخمة. ومثله صدام حسين الذي كان مولعاً بالقصور الفاخرة وبأعياد ميلاده الباذخة حيث كان يسرف على نفسه من الألبسة والأزياء؛ فتارة يظهر بالزي العسكري وتارة أخرى ببدلة من الماركات الأوروبية، كما كان يتسلى بقتل معارضيه. لقد انتهى القذافي وصدام ومبارك وبن علي، ولن تنتهي الحكاية، لأن السلطة مرض، خصوصاً في عالمنا العربي والإسلامي. كل المؤشرات تؤكد رحيل الأسد، لكن يبقى عقل السلطة مهيمناً على التفكير والسلوك، وهذا ما يشكل مجالا واسعاً لمراجعة قيم الاستبداد في الثقافة العربية التي بقيت رغم الثورات الجديدة، لتفرز نمطاً جديداً من الاستبداد قد يطول ليأكل طاقات الشعوب ويدفع نحو مزيد من الفوضى الضاربة والمدمرة. إن مقاومة المستبد لا تنحصر في مواجهة السلطة الرسمية، لذلك فإن الحركات الاجتماعية التي قام بها الشباب تعبر عن حالة اختناق من رموز الاستبداد الأخرى متمثلة في الأحزاب كما في السلطة الرسمية، وهذا ما يضاعف مصاعب التحول نحو مجتمعات تقوم على فكرة القانون والفصل بين العام والخاص. التحول عسير بكل تأكيد، لكن رغم عسره فإن هناك مؤشرات إيجابية تتجسد في كسر جدار الخوف من السلطة، وهذا ما سيدفع الناس نحو التحدي لكل ما هو خارج عن العقل في إدارة الدول. فاليوم في سوريا سينتهي الأسد وقد تدخل البلاد في اقتتال داخلي للفوز بالسلطة، وهي مرحلة انتقالية لابد منها لتجاوز ثقافة الاستبداد ومِحنُه الممتدة.