في وقت يتميز بحالة من عدم اليقين السياسي، يكافح فيه الحزبان الوطنيان الرئيسيان، "حزب المؤتمر الوطني الهندي" و"حزب بهارتيا جاناتا"، من أجل الحفاظ على أهميتهما قبل عامين من موعد الانتخابات العامة القادمة في عام 2014، بات لدى الهند اليوم رئيس جديد؛ حيث انُتخب وزير المالية السابق براناب موكارجي وتم تنصيبه في بحر الأسبوع الماضي، ليصبح الرئيس الثالث عشر للهند منذ استقلالها عن بريطانيا، وليكون بذلك أول سياسي من ولاية البنغال الغربية يشغل المنصب الأعلى في الهند. غير أن السباق إلى منصب رئيس الجمهورية في الهند لم يتميز بتنافس حاد وكبير في نهاية المطاف؛ حيث فاز رجل الدولة البالغ من العمر 76 عاماً، وهو سياسي نشط مرتبط بحزب المؤتمر الوطني منذ خمسة عقود مضت، بحوالي69 في المئة من أصوات المقترعين في كلية انتخابية تتألف من 4896 مشرعاً على المستوى الوطني وعلى مستوى ولايات البلاد، متغلباً بذلك على منافسه الزعيم القبلي سانغما، رئيس البرلمان السابق الذي حظي خلال هذه الانتخابات بدعم حزب المعارضة الرئيسي "بهارتيا جاناتا" ذي التوجه اليميني. ويُعتقد الآن على نطاق واسع أن الهند بات لديها اليوم رئيس سياسي جداً، معروف بخبرته في السياسة والإدارة والدستور. وقد أثبت ذلك بعد وقت قصير على تنصيبه باعتباره الرئيس الثالث عشر للبلاد، حيث دعا إلى القضاء على الفقر في الهند قائلاً إنه لا يوجد ما هو أشد إذلالا أو إساءة لكرامة الإنسان أكثر من الجوع والفاقة. ويخلف موكارجي في منصب الرئاسة أولَ رئيسة للهند، وهي براتيبها باتيل التي كانت رئيسة لا تحب الأضواء؛ وقد انتقل إلى منزل الرئيس الفخم الذي أُنشئ في عهد الاستعمار البريطاني. وفي الوقت الحالي، تعيش الهند حالة من عدم اليقين الاقتصادي، وذلك في ظل انخفاض معدل النمو وارتفاع معدل التضخم. وفي حال أفرزت انتخابات 2014 "برلمانا معلقاً" (برلمان لا يمتلك فيه من الحزبين الرئيسيين الأغلبية اللازمة لاتخاذ القرارات وتنفيذ السياسات)، فإن دور براناب موكارجي سيصبح مهماً للغاية. ذلك أن الرئيس الهندي لا يملك الكلمة الأخيرة بشأن التشريعات فحسب، ولكن دوره يصبح هاماً كذلك عندما لا يفوز أي حزب بالأغلبية في الانتخابات العامة. والواقع أنه منذ الآن أخذ البعض يطلق على الرئيس الجديد لقب "صانع الملوك". كما تعرف عن موكارجي مهاراته في حل المشاكل، وقد سبق له أن أدار العلاقة مع حلفاء حزب المؤتمر المزعجين في كثير من الأحيان. خروج الرئيس الجديد من الحياة السياسية النشطة يسدل الستار على مشواره السياسي اللافت. فقد دخل موكارجي البرلمان لأول مرة في عام 1969، وعُين نائباً لوزير التنمية الصناعية من قبل رئيسة الوزراء الراحلة إنديرا غاندي التي كانت معجبة بذلك السياسي الشاب. ومنذ تلك اللحظة، ظل موكارجي شخصية محورية في حكومة كل رؤساء الوزراء المنتمين إلى حزب المؤتمر، بدءاً بإنديرا غاندي نفسها، ثم ابنها راجيف غاندي، ومروراً بناراسيمها راو، وصولا إلى رئيس الوزراء الحالي مانموهان سينج. وموكارجي، المعروف شعبياً بالشخصية الثانية في الحزب، لأنه لم يشغل أبداً منصب رئيس الوزراء (وإن كان اسمه مطروحاً لتولي ذلك المنصب في أكثر من مرة)، تولى كل حقيبة وزارية هامة ممكنة في الحكومة الهندية خلال العقود الأربعة الماضية؛ من المالية إلى الشؤون الخارجية إلى الداخلية، وكان الوزير الذي خدم في الحكومة أطول مدة حتى الآن. وعلى الرغم من أن موكارجي حقق الكثير من الإنجازات في الحقائب التي تولاها، إلا أن بداياته السياسية والاجتماعية كانت جد متواضعة. فهو ينحدر من بلدة نائية في البنغال الغربية. وكان والده ناشطاً في حزب المؤتمر الوطني الهندي، وقد تعرض للسجن عدة مرات من قبل المستعمر البريطاني بسبب مشاركته في كفاح الهند من أجل الحرية والاستقلال. وهو حائز على شهادتي ماجستير في التاريخ والعلوم السياسية؛ كما حصل لاحقاً على شهادة في القانون من جامعة كالكاتا. وفي بداية مشواره المهني كان موظفاً في مكتب البريد والتلجراف في كالكاتا. وبعد ذلك انتقل إلى مزاولة التعليم الجامعي؛ ثم عمل صحافياً في إحدى الصحف المحلية في البنغال الغربية، قبل أن يدخل عالم السياسة ويصبح عضواً في البرلمان. وفي مشواره المهني اللافت والمثير للإعجاب، حال خطأ واحد فقط دون أن يصبح موكارجي رئيسا لوزراء البلاد. ذلك أنه عندما اغتيلت إنديرا غاندي من قبل حارسها الشخصي في عام 1984، سُئل موكارجي عمن ينبغي أن يصبح رئيس الوزراء المؤقت، فرد بالقول إن العضو الأكبر سناً في الحكومة هو الذي ينبغي أن يعين رئيساً للوزراء. فدفع موكارجي، الذي كان أكبر وزير سناً وقتئذ، ثمن تصريحاته حيث اعتُبر سياسياً طموحاً أكثر مما ينبغي. ثم عمد راجيف غاندي، الذي أصبح رئيسا للوزراء، إلى تهميشه، لكن عملية العزل السياسي ضده لم تدم سوى عامين فقط، إذ سرعان ما أعاده راجيف غاندي كمتحدث باسم حزب المؤتمر الوطني، وهو منصب مرغوب جداً. لكن عائلة غاندي، حسبما يقال، لم تثق أبدا في موكارجي بشكل كامل، ولذلك فإنه لم يتمكن من أن يصبح رئيساً للوزراء رغم أنه كان مرشحاً ومؤهلا في أكثر من مرة. غير أنه مع الوقت أصبح موكارجي واحداً من أكثر السياسيين شعبية في الهند. وعندما أعلن حزب المؤتمر الوطني ترشحه لمنصب الرئيس، حظي بالدعم من قبل أحزاب سياسية مختلفة عبر ألوان الطيف السياسي في البلاد. ذلك أنه خلال عملية التصويت، والتي كانت سرية، قام حتى بعض أعضاء حزب بهارتيا جاناتا بالتصويت لموكارجي. ومما لا شك فيه أن الهند لديها اليوم الرجل الأكثر كفاءة وأهلية في منصب الرئيس. وبينما تسير البلاد نحو حالة عدم اليقين السياسية والاقتصادية، فإن كل الأنظار ستكون متجهة إلى الرئيس الجديد.