ترك المفكر المصري أنور عبدالملك، الذي رحل عن دنيانا مؤخراً، مصنفات كثيرة، عن الأصالة والمعاصرة وعلاقة الجيوش بالسلطة ونقد الاستشراق وديناميات المجتمعات الإنسانية، ودارت رؤيته الأساسية حول قضية "الانتصار للشرق" والرغبة العارمة في تغيير العالم، وهي الرؤية التي تضمنها بالأساس كتاباه "ريح الشرق" و"تغيير العالم". ولا تقتصر هذه الرؤية على العالم العربي، بل تمتد إلى العالم الثالث بأسره، لكن العرب يقعون في قلبها، ليس فحسب من منطلق أنهم يشكلون جزءاً من العالمثالثية، التي أراد عبدالملك أن ينتصر لها، بل أيضاً لأن الحال العربي كان حاضراً في كل ما وجهه من أفكار وقدمه من تحليلات للأوضاع العالمية، في التاريخي والآني، على حد سواء، الأمر الذي جعله ينظر للعالم الثالث في سياقه الدولي المتسع بعين عربية، أو ببصيرة مفكر مهموم بمشكلات العرب. ويظهر هذا الأمر بجلاء في مقدمة كتابه "تغيير العالم"، فعلى رغم أن مباحث الكتاب تتناول أصول النظام العالمي والتحديات التي تجابهه والأيديولوجيتين السائدتين فيه وهما الرأسمالية والاشتراكية، إلا أنه يقول: "هذه الدراسة تستهدف أن تضع بين يدي القارئ الملتزم، والمواطن الواعي، وبين طلائع مختلف المدارس التكوينية الأصيلة للفكر والعمل في أمتنا العربية، مجموعة التحاليل والرؤى التي قد تعين على تحديد التحرك العربي في المرحلة القادمة، صوب نظام عالمي جديد". كما ينهي عبدالملك كتابه المذكور، معتبراً أننا على عتبة صياغة "المشروع الحضاري" أو "الاستراتيجية الحضارية"، التي هي في نظره، وكما يتبين من آرائه التي شملتها كتابات أخرى له، تعتمد على استنهاض الإرث الحضاري العربي- الإسلامي، دون إغفال الفكرة الوطنية. ومن سمات رؤية عبدالملك، أنها تناقش الحاضر العربي في إطار تضامن مع العالمثالثية، وفي تفاعل مع النظام الدولي، فتبدو هنا متشابهة في جانب منها مع مشروع "التراث والتجديد " لحسن حنفي، لكنها تختلف عنه، في إعطاء البعد السياسي- الاقتصادي، وليس الفلسفي، مكانة أكثر بروزاً في التناول والتحليل، لتلتقي في بعض جوانبها مع العطاء الفكري لسمير أمين. وإذا كان ما قدمه عبدالملك قد يستوجب إعادة النظر في ضوء التغير الذي شهده العالم، بسقوط الاتحاد السوفييتي، واشتداد عود العولمة بشتى صورها، فإنه لا يزال يحمل قيمة مهمة، من منطلق تركيزه على دور العالم الثالث في الحضارة الإنسانية، وتفنيده للمركزية الأوروبية، ودعوته إلى عالم قائم على التعدد وليس احتكار جهة، أياً كانت، للإنتاج الاقتصادي والتقني والعلمي، خاصة في مجال الإنسانيات. فعبد الملك يفضح بعض ادعاءات "الآخر" الغربي، من خلال تأكيده أن تركيب النظام الدولي قائم على "فائض القيمة التاريخي"، التي على أساسها تأسست الهيمنة الغربية ابتداء من مستهل القرن الخامس عشر وحتى اجتماع يالطا 1945. وفي رأيه أن هذا الفائض لم يكن محصوراً، في يوم من الأيام، ضمن المجال الاقتصادي فحسب، بل امتد إلى المجال الفكري، والنظرية الاجتماعية. اقتصادياً كان تكديس المواد الأولية ومصادر الطاقة والأراضي والمساحات والسيطرة على المدن والموانئ وشبكات المواصلات الرئيسية والمحيطات.. الخ أمراً على جانب كبير من الأهمية، بالنسبة للبرجوازية الغربية، حيث أتاح لها الوسيلة الكفيلة بفرض سيطرتها على العالم، من خلال الثورة العلمية والصناعية، التي مكنت القوة البحرية من فتح الجغرافيا السياسية للعالم أمام أوروبا. وفكرياً نجد أن تقنيات الاتصالات الحديثة ساهمت في تكثيف نقل فيض الأفكار والنظريات والمفاهيم من "الأطراف" إلى "المركز"، فتكدست لدى المركز، ومكنته من صياغة النظرية الاجتماعية والاتجاهات الفكرية الحديثة، ولذا أصبح من الصعب على الأطراف، آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، أن تتطور إلا وفق النهج الذي تقترحه وتفرضه مختلف المدارس الفكرية في الغرب المهيمن. وهنا يؤكد عبدالملك أن "فائض القيمة التاريخي تصور نابع من صلب حروب الغزو الاستعماري، ابتداء من عصر الاكتشافات البحرية.. وقد كانت الموجة الأولى من الغزوات والنهب والاختراق من نصيب المنطقة العربية- الإسلامية، اعتباراً من القرن التاسع، أي منذ الحروب الصليبية، وتشكل العدوانية الحربية العنصرية الصهيونية الحلقة المعاصرة لهذه الموجة". والموجات الأخرى كانت من نصيب أفريقيا، حيث تجارة الرقيق ونهب المواد الخام، والمجتمعات الهندية في أميركا الوسطى والجنوبية، حيث خضعت للاستعمار الإسباني والبرتغالي، وجنوب آسيا، خاصة شبه القارة الهندية، ثم جنوب آسيا وشرقيها. والسؤال المطروح في هذا المقام هو: كيف يمكن تجاوز تلك المراحل القاسية من التاريخ البشري، وتغيير العالم إلى وضع أفضل مما هو عليه؟.. يطرح عبد الملك، في معرض إجابته على التساؤل السابق، ثلاث رؤى للتغيير، الأولى تقليدية تقوم على وجود قوتين عظميين ذواتا أيديولوجيتين متصارعتين، كما كان الحال بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي السابق، وأنه لا مفر من تغلب قوة وأيديولوجية على الأخرى. وإذا كانت هذه الرؤية قد تلاشت بسقوط الاتحاد السوفييتي، فإن عوامل التغلب هذا، التي وضعها عبدالملك، لا تزال جلية، فهو لم يقر التغلب عن طريق الحروب مع تقدم أسلحة الدمار الشامل، لكنه ينادي بإبراز عامل "نوعية الحياة"، أي وجود خليط من الحرية والكفاية الاستهلاكية، ومن المشاركة السياسية والتضامن الاجتماعي. ومع ذلك لم يتجاهل التغيير عبر ظهور قوى عظمى أخرى، أي نظام عالمي متعدد الأقطاب، وهو ما يتوقعه بعض الباحثين، ويحلم به من يريدون عالماً أكثر توازناً، لا تهيمن عليه قوة واحدة ذات بطش. والرؤية الثانية تكنولوجية، وهي تكونت في ظلال الرؤية السابقة كنقيض لها أو بديل عنها، فتوافر سمات "مجتمع ما بعد الصناعة"، حيث الثورة الإلكترونية، في دولة ما، يعطيها مكانة عالمية. لكن التغيير عبر "التكنولوجيا" لا يكون فقط عبر النظام الدولي، بل من خلال ما تحدثه الثورة العلمية والتقنية من تغيير في حياة الإنسان، حيث تمكنه من امتلاك أدوات فعالة تزيد من قدرته على التحكم في الطبيعة، وبذلك يصبح هو صانع نفسه. ولكن هذه الرؤية، فضلاً عن أنها تنسى العنصر الإنساني حيث الوعي والإرادة والإيمان، فإنها قد تقود إلى تحكم قلة من المجتمعات في الأدوات التي تمكنها من صد وتحريف حركة تغيير العالم، التي تبدو في جوهرها تهديداً للهيمنة الاستعمارية، نظراً لأنها تسعى إلى تحقيق حياة إنسانية إيجابية للشعوب كافة.