تجد بعض دول الشرق الأوسط أحياناً، لأسباب متعلقة بالتاريخ، أو الجغرافيا، نفسها منغمسة في لعبة موازين القوى وحساباتها الدقيقة بالمنطقة، بل قد تجد نفسها محط تدخلات القوى الدولية بالنظر إلى مواقعها الجيواستراتيجية المهمة والحساسة، وفي هذا السياق يمكن النظر على سبيل المثال إلى الحالة المصرية وموقعها الجغرافي الفريد بإطلالها على البحر الأبيض المتوسط من جهة والبحر الأحمر من جهة أخرى المرتبطين بقناة السويس مع كل ما يتيحه هذا الموقع من فرص التجارة وإمكانات عسكرية. ولذا لم يكن غريباً أن يدفع قرار جمال عبدالناصر بتأميم القناة في عام 1956 مصر إلى مواجهة مع القوتين الإمبرياليتين المهيمنتين في تلك الفترة وهما بريطانيا وفرنسا، مع انضمام إسرائيل إليهما بأطماعها التوسعية المعروفة، ولاسيما أنها كانت حريصة على إسقاط عبدالناصر ومن ثم مشاركتها في العدوان الثلاثي للسيطرة على القناة وإهانة عبدالناصر الذي كان يمثل وقتها رمز القومية العربية. ومع أن حساب موازين القوى في تلك المرحلة كان يعطي تفوقاً طبيعياً للطرف المهاجم وكان يفترض أن يطمئن للنتائج الواضحة، إلا أن المؤامرة السرية التي حيكت بليل ضد مصر وعبدالناصر انتهت إلى كارثة سياسية كبرى، فقد عارضت الهجوم القوتان الجديدتان على الساحة الدولية، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، كما أن قدرة عبدالناصر على تحويل عدوان عسكري إلى رصيد سياسي ضمن فشل الحملة الثلاثية التي قادتها بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ليصعد بذلك نجم عبدالناصر ويعزز مكانته في مصر والعالم العربي. ولكن ليست مصر هي الوحيدة التي عانت من التجاذبات الدولية بسبب موقعها الجغرافي ودورها السياسي، بل هناك أيضاً سوريا التي تقتسم حدودها مع تركيا والعراق ولبنان، والأردن وإسرائيل. ومن تلك البلدان ثلاثة منها تستدعي ذكريات أليمة بالنسبة للسوريين، ففي عام 1920 أعلن المؤتمر الوطني السوري استقلال سوريا عن الإمبراطورية العثمانية، وكانت سوريا وقتها تمتد من جبال طرطوس شمالاً إلى حدود صحراء سيناء جنوباً بنظام سياسي ملكي يقوده الملك فيصل، بيد أن الفرنسيين كانت لهم خطط أخرى، حيث قرروا في مؤتمر "سان ريمو" في 1920 تقسيم بلاد الشام الكبرى إلى أجزاء، مع سيطرة فرنسا على لبنان وسوريا، وخضوع فلسطين للانتداب البريطاني، وبعد فترة قصيرة واصل الفرنسيون خططهم للسيطرة العسكرية على سوريا بزحفهم على دمشق واحتلالها غير معترفين بقرار الاستقلال الذي أعلنه المؤتمر الوطني السوري، ثم سرعان ما أعلنت فرنسا في نفس السنة عن ميلاد دولة لبنان الكبير، مقسمة البلاد إلى مزيد من الكيانات الصغيرة بين العلويين في المناطق الساحلية والدروز في الجنوب، وزاد من تقزيم سوريا إلحاق تركيا لمنطقة لواء الإسكندرون بأراضيها. ولكن على رغم هذه الظروف والهجمة التي تعرضت لها سوريا فقد تمكنت في النهاية من تحقيق الاستقلال في عام 1946، وبعد فترة من عدم الاستقرار تميزت بالانقلابات والانقلابات المضادة اجتاحت سوريا رياح القومية العربية والوحدة العربية التي كان يقودها جمال عبدالناصر ضد الإمبريالية، بل دخلت عام 1958 في وحدة مع مصر سرعان ما عادت لتنسحب منها تحت وقع الهيمنة المصرية التي لم تقوَ على تحملها. وبعد سنتين على فك الوحدة مع مصر في 1961 وصل حزب البعث السوري إلى السلطة في انقلاب عسكري، مركزاً في خطابه على مزاعم حول مناهضة الإمبريالية ومكافحة الصهيونية ووضع هدف تحرير فلسطين. ولكن الهزيمة الساحقة للجيوش العربية في حرب 1967 صدمت القادة العرب وكشفت الهوة السحيقة التي تفصل بين الخطابات النارية والواقع على الأرض، هذا بالإضافة إلى ما ألحقته الهزيمة من ضرر بفكرة القومية العربية واهتزاز مصداقية ادعاءات بعض الأنظمة التي كانت تزعم أنها ذات طبيعة ثورية وصراعاتها الطويلة مع الأنظمة التي كانت تسميها بالرجعية ودخولها في صراعات جانبية أخرى مثلما حصل في اليمن. وعندما توفي عبدالناصر في 1970 دفنت القومية العربية معه، إذ حرص أنور السادات من بعده على تفكيك آخر قلاعها بالانقلاب على مبادئ عبدالناصر المرتكزة على ركنين أساسيين: الاشتراكية في الداخل، والقومية في الخارج، وقام بنسج تحالفات جديدة، لاسيما بعد طرده للمستشارين الروس وتقاربه مع أميركا وبلدان الخليج العربي. ومع أن السادات وحافظ الأسد سارا معاً في طريق مشترك في حرب 1973 لاستعادة بعض الشرف المهدور، إلا أن الطريق المشترك توقف في تلك المحطة، حيث قرر السادات الذهاب وحيداً إلى القدس المحتلة، وبعدها إلى واشنطن ثم التوقيع على اتفاق منفرد للسلام مع إسرائيل في كامب ديفيد، في حين ارتأت سوريا أنها ليست في عجلة من أمرها وقررت الانتظار. إلا أن سوريا ستجد نفسها لاحقاً منغمسة في أتون الحرب الأهلية اللبنانية منحازة لطرف أو لآخر للحفاظ على ميزان القوى. أما على الصعيد الإقليمي فقد أزاحت الثورة الإيرانية في عام 1979 شاه إيران ليصبح حافظ الأسد في سوريا أحد أقرب الحلفاء إلى إيران، بل لقد وقف معها في حربها الطويلة ضد العراق، ومنذ ذلك الوقت وسوريا تدخل لعبة التوازن الدولي من خلال الانضمام إلى حرب تحرير الكويت في 1991 ورفضها غزو العراق في 2003 وانضمامها إلى الحملة العالمية ضد الإرهاب إلى أن وصلت اليوم إلى أزمتها الأخطر مع هبوب رياح الربيع العربي واهتزاز أركان النظام في دمشق الذي يواجه منذ أكثر من 16 شهراً انتفاضة شعبية بالسلاح والنار، موغلاً في تقتيل الشعب وحافراً قبره بيده.