في الهند التي تقول تقارير رسمية إن عدد الفقراء فيها يتجاوز 300 مليون فقير، اعتبرت قيادتها أن القضاء على الفقر يمثل مهمة قومية، وأكد رئيسها الجديد "براناب مخرجي"، أنه "لا يوجد إذلال أكثر من قسوة الجوع"، وقال عقب أدائه اليمين الدستورية يوم الأربعاء الماضي، وفي إشارة إلى تجربته كزعيم سياسي مخضرم: "لقد رأيت تغييرات لا تصدق خلال رحلتي التي أوصلتني إلى هنا، من ضوء مصباح في قرية صغيرة في البنجال إلى أضواء دلهي ". فكيف كانت أهم محطات الرحلة المذكورة بين البنجال ودلهي؟ لعل أحدث محطاتها كانت فوز مخرجي بالانتخابات الرئاسية الهندية يوم الـ22 من يوليو الجاري، بعد حصوله على نحو 69 في المئة من الأصوات، مقابل 31 في المئة لخصمه "بورنو سانغما"، رئيس البرلمان السابق ومرشح حزب "بهاراتيا جناتا" المعارض. أما مخرجي فكان مرشح الائتلاف الحاكم بقيادة "حزب المؤتمر الوطني الهندي"، بصفته أحد أقوى السياسيين وأكثرهم خبرة في البلاد؛ إذ سبق أن تولى العديد من المناصب خلال مسيرته السياسية، بما في ذلك وزارات المالية، والداخلية، والخارجية، والدفاع، والتجارة، كما كان عضواً برلمانيا لفترة طويلة، وقد ترأس الغرفة العليا في البرلمان (راجيا سابها)، وعمل في مجلس حكام صندوق النقد الدولي وفي البنك الدولي والبنك الآسيوي للتنمية... وها هو اليوم يصبح الرئيس الـ13 للهند، وأول رئيس هندي من أصل بنجالي، ليخلف "براتيبها باتيل" التي كانت أول امرأة تتولى رئاسة البلاد، وقد أكملت مدة رئاسية دامت خمسة أعوام. وقبل ذلك كان مخرجي قد انخرط مبكراً في الحياة السياسية من خلال "حزب المؤتمر الوطني"، وتدرج في المواقع حتى أصبح أحد الزعماء البارزين للحزب. ففي عام 1966 قاد حملة انتخابية ناجحة لصالح المرشح المستقل والقريب من حزب المؤتمر، "كريشنا مينوت"، في "ميدنابور". ثم جرت في عام 1969 انتخابات جزئية ترشح فيها مخرجي على قوائم حزب المؤتمر الوطني، وبدعم من إنديرا غاندي شخصياً، والتي أثنت على مواهبه السياسية قائلة إنه "رجل لكل الفصول"، ففاز بعضوية البرلمان القومي (غرفة الشيوخ)، ليعاد انتخابه في الأعوام 1975، 1981، 1993، 1999. وبعد صعوده المبكر، أصبح مخرجي أحد مساعدي إنديرا المقربين، كما أصبح عضواً في مجلس الوزراء نائباً لوزير التنمية الصناعية عام 1973. وبلغ نفوذه الحكومي ذروته خلال الفترة التي قضاها وزيراً للمالية (1982-1984)، كما كان رئيساً للغرفة العليا في الكونجرس الهندي "راجيا سابها" بين عامي 1980 و1985. وخلال الفترة التي تولى فيها راجيف غاندي رئاسة الحكومة بعد اغتيال والدته إنديرا عام 1984، كان مخرجي على خلاف مع راجيف إذ رأى فيه شخصاً عديم الخبرة والكفاءة، لكن مخرجي خسر الصراع على السلطة، فشكّل حزبه الخاص، قبل أن يعود ويندمج مع المؤتمر الوطني عام 1989 بعدما توصل إلى حل وسط مع راجيف، حيث تولى وزارة التخطيط عام 1991 ثم وزارة الخارجية عام 1995، ليكون فيما بعد مهندس عملية إدخال سونيا غاندي (أرملة راجيف) عالم السياسة في أواخر التسعينيات. ومع عودة حزب المؤتمر إلى السلطة على رأس "التحالف التقدمي المتحد" عام 2004، كان مخرجي أحد الفائزين بعضوية مجلس النواب في الكونجرس الهندي للمرة الأولى، حيث حافظ على مقعده منذ ذلك الحين وحتى استقالته الشهر الماضي، كما حافظ على مرتبته المتقدمة ضمن حكومة رئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ، حيث تقلب بين حقائب وزارية رئيسية هي: الدفاع (2004- 2006)، الشؤون الخارجية (2006-2009)، والمالية (2009-2012). وقد كان أداؤه في تلك المواقع وغيرها مما ساعده في الحصول على ترشيح "التحالف التقدمي المتحد" لرئاسة البلاد، ثم الفوز السهل الذي حققه على منافسه في السباق إلى القصر الرئاسي. وقد ولد براناب مخرجي لعائلة بنغالية في "ميراتي"، بإقليم البنجال في الهند البريطانية عام 1935. وكان والده، "كامادا كينكار موخرجي"، ناشطاً في حركة الاستقلال الهندية وعضواً في برلمان إقليم البنجال الغربي بين عامي 1952 و1964، ممثلا عن حزب المؤتمر الوطني. درس مخرجي في كلية "سوري فيديازاجار"، ثم تابع في جامعة كلكتا حيث حصل منها على شهادة الماجستير في التاريخ والعلوم السياسية، ثم على الشهادة ذاتها في القانون. أما مسيرته المهنية فبدأها ككاتب في مكتب النائب العام، ثم محامياً بمحاكم كلكتا، كما قام بتدريس العلوم السياسية في كلية "سوري فيديازاجار"، وفي الوقت ذاته كان يعمل صحفياً في مطبوعة "نداء الوطن"، قبل دخوله معترك السياسة. ومع مرور الوقت أصبح مخرجي من الشخصيات المهيمنة في حزب المؤتمر الحاكم، وقد ترك بصمته في الحياة السياسية الهندية، حتى أن اسمه طرح مراراً لتولي رئاسة الحكومة، لكنه بدلا من ذلك أصبح رئيساً للجمهورية، حيث انتخبه مجمع انتخابي يضم 4896 نائباً في البرلمان الفدرالي والبرلمانات المحلية. لكن يبقى منصب الرئيس في النظام السياسي الهندي، منصباً شرفياً إلى حد كبير، إذ تتجمع السلطات التنفيذية في يد رئيس الوزراء، وإن كان الرئيس يلعب دوراً مهما في الأزمات السياسية؛ وعليه مسؤولية حماية الدستور، كما يشغل منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة. لذلك يعول قادة حزب المؤتمر على انتخاب مخرجي في إعطاء دفعة جديدة لحزبهم الذي تضررت مصداقيته بسبب سلسلة من فضائح الفساد وتقارير عديدة حول إساءة إدارة الاقتصاد الهندي. وإن لم تكن لمخرجي في منصبه الجديد الصلاحيات الدستورية الكافية لتحقيق مرئياته حول محاربة الفقر والعوز في الهند، البلد الذي يضم أوسع جيوب الفقر في العالم إلى جانب عدد قياسي من الأثرياء وشركات الرقائق الإلكترونية... فإنه يعول على وجود حكومة وأغلبية برلمانية من حزبه في الدفع بالبلاد على طريق الخلاص من الفقر، طريقه بين البنجال ودلهي، حتى تستطيع مواصلة انطلاقها ومنافسة القوى الكبرى الناهضة! محمد ولد المنى